إن الشعور بالتشتت وعدم الاتحاد حتى في بقاع الأرض هو شعور سيئ خاصةً لدى الحالمين الذين تتعلق آمالهم حول توحيد رقعة الوطن، والشعور بالمسؤولية تجاه ذلك. كما أنه لا توحيد لرقعة البلاد ما لم تكن هناك سلطة تمتاز بالازدواجية المستمرة مع دول الجوار، حتى تتمكن من توحيد هذه الولايات المتناثرة تحت مظلة حكم واحدة. إن السياسة لا تريد رجلاً مسلّحاً بأحدث طراز من الأسلحة فحسب! فإن أدنى وأجبن رجل يستطيع أن يتسلّح لكن لا يستطيع أن يكمل نضاله في المحافظة على قبضة حكمه ما لم يمتلك أبرز المقومات والمهارات العقلية المتمثلة بالذكاء والدهاء والمراوغة والمناورة على الخصوم بصمت، كما يجب أن تمتاز هذه المناورات "بالحيوية" وأن يكون لدى من يدّعي أنه يمتلك هذه العقلية، علماً لتحولات المجتمع الدولي من حوله بكل شفافية وموضوعية لا تشوبها العاطفة، وإن هذا العلم لا يأتي على طبق من ذهب، ولو أتى لرأينا كل منا ذا سلطة مرموقة في مختلف قارات العالم حتى نصل للفضاء! أدنى وأجبن رجل يستطيع أن يتسلّح، لكن لا يستطيع أن يكمل نضاله في المحافظة على قبضة حكمه ما لم يمتلك أبرز المقومات والمهارات العقلية المتمثلة بالذكاء والدهاء والمراوغة والمناورة على الخصوم بصمت.. إن هذه المهارة تستدعي جهداً عقلياً ووقتاً قد يمتد لسنوات، لأن التطبيق لا يأتي بشكل مباشر بل يأتي على هيئة مناورات وألاعيب ودهاء غير طبيعي؛ حتى يتمكن من إعلاء السلطة ثم توحيد البلاد تحت راية واحدة، وفي التاريخ هناك أدلة وبراهين تجسدت على كيان شخصيات سياسية فذة نجحت في مشروع توحيد عدة ولايات متناثرة ومشتتة إلى دولة يعمها الأمن والأمان وفق قوانين وأنظمة. مثل: أوتو فون بسمارك، وهو رجل دولة وسياسي بروسي - ألماني شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا "والمقصود ب "بروسيا" هي إحدى مقاطعات ألمانيا سابقاً قبل إعلان الدولة ككيان مستقل" وقد شغل بسمارك هذا المنصب بين عامي 1862 - 1890م، والجدير بالذكر أنه هو من خطط وأشرف على توحيد الإقطاعات الألمانية وأسس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى ب"الرايخ الألماني الثاني" وأصبح أول مستشار لها بعد قيامها في عام 1871م. وتتجلى حنكة هذا الرجل في مواقفه السياسية التي ألّف عنها مئات المؤلفات، ولا يغيب عن ذهن أي رجل سياسي هذا الرجل الأسطوري الذي يدعى ب "بسمارك" ولعلنا نذكر أهم ما قام به من مخططات للخلاص من التحديات بأقل خسائر ممكن أن تقع وتقبع معه جميع مخططاته فقد عاصر بسمارك، الامبراطور الشهير "نابليون الثالث" وكان نابليون حينها مولع قلبه بالإنجازات العسكرية لتحقيق إستراتيجيته "القوة بالسلاح والنفوذ" وكان يدور في خلد هذا الإمبراطور المغرم بالحروب هو إشعال الحرب البروسية النمساوية في عام 1866م، فأخذ يساوم السفير البروسي "حين قال له: إن نشب نزاع بروسي - نمساوي فإني سأكون على حياد تام ويسرني أن أبدي رغبتي بإعادة توحيد رقعة بلادي من خلال إعادة مقاطعتي شلزوغ وهولشتاين من سيادتكم بروسيا. يتضح مما قاله نابليون أنه يكاد يكن متأكداً من وقوع نزاع مسلح بين النمسا وبروسيا لذلك أعلن مساومته بشكل شفاف -أي من الممكن- أن نستخدم القوة لاسترداد المقاطعتين، أو أنه كان يطلب شراء ضعف بروسيا من خلال تنازلها عن المقاطعتين "شلزوغ وهولشتاين" بمقابل الوقوف على الحياد أو لجانبها في المعركة. ولكن الداهية بسمارك أدرك ما يرنو إليه نابليون، فأخذ يعرض عرضاً ملغوماً على من يتوق لسماع صوت المدافع وإراقة الدماء، وقد جاء هذا اللغم على هيئة "مباركة بروسيا لفرنسا" لكي تقوم باحتلال بلجيكا وضمها إلى سيادة فرنسا. والمبتغى من هذا اللغم هو إصابة هدفين لا ثالث لهما: الأول أشباع الطموح الغبي عند نابليون وعادة لا يشبع الرجل العسكري الطائش حتى تستنزف قواه، والثاني كان بسمارك مدركاً عندما تبدأ فرنسا بالهرولة نحو بلجيكا، فبريطانيا ستتدخل بكل ما أوتيت من قوة لمنع هذا الاحتلال، وستحدث أزمة كبرى بين البلدين وتكون فرنسا مكروهة من قبل المجتمع الدولي، فبريطانيا هي المنتصرة في نهاية الأمر قمعاً كان أم بطرق دبلوماسية. فكانت نتيجة اللعبة الفاشلة لنابليون الثالث أن بروسيا انتصرت على النمسا بأقل خسائر سياسية وعسكرية، ومن ثمار هذا الانتصار هو أن بسمارك نجح في إعادة رسم خارطة أوروبا وتمكين وحدة ألمانيا، وكذلك اندمج في نمط العلاقات الدولية. واتضح للمجتمع الدولي أن نابليون ليس سوى مقامر يضاعف مبلغ المراهنة كلما اثقلته الخسارة، وأنه خطر يهدد السلم الأوروبي حين ذاك، كما يصفه المؤرخون. وهذا ما قصدناه أعلاه أن الدهاء السياسي أشد وطأةً على العدو من السلاح الناري، فقد كان بسمارك يعيش بدرع دائم لا ينقطع ليحمي أهدافه وطموحاته الحديدية المتعلقة ببلده من المنافسين، وأدرك أن التخلص من هؤلاء المنافسين هو معرفة نقطة الضعف لديهم بعد التأكد من عدم وجود عقلية فذّة، وبعد التمحيص بشخصية نابليون فقد أيقن بسمارك أن نقطة ضعف نابليون هو حصد الأمجاد حتى يخلّد في قلوب شعبه وفي صفحات التاريخ والقارة الأوروبية ككل. ومن قراءة المشهد نؤكّد أن بسمارك قد أعطاه الفرصة في إشباع تلك الرغبة وحال نفسه تقول: ما دام يفتقر نابليون للدهاء السياسي فلا بأس! فالخدعة أن تجعل منافسيك يشعرون بأنهم أذكياء خارقين للعادة! وفي نهاية المطاف سيقعون في شباك أحلامهم إلى قاع المحيط تحت ويلات أسماك القرش والحيتان، لتخرج بنهاية الأمر من هذا المحيط بأقل خسائر فادحة، والأهم بأقل عدد من الأعداء.