لنفترض أننا كلنا نفكر بنفس الطريقة، وأننا كلنا نفكر بمنطقية ونعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة ليست تلك التي لا يحكمها إلا فلاسفة بل مدينة أخرى جميع من فيها فلاسفة خطواتهم محسوبة بدقة وأفعالهم عاقلة غض الطيش عنها بصره وما للفوضى في تلك المدينة مكان. منطقياً، لا بد أن تكون الحياة في هذه المدينة خالية من الشوائب والأخطاء، خالية من الطيش والغباء وما يسببانه من إخلال بالنظام وفوضى عارمة. لكن، هل هذه المدينة صالحة للعيش حقاً؟ وهل ستدور الحياة دورتها الطبيعية بالمنطق وحده؟ وهل الأذكياء دوماً على صواب؟ والأهم من ذلك هل جعلهم ذكائهم أكثر سعادة؟ إني لأعجب حقيقة ممن يبحث عن صديق يشبهه، أو زوجة توافق طبيعتها طبيعته ظناً منه أن التشابه يعني بالضرورة الاتفاق والوئام والتناغم وأن الاختلاف مخيف ولا يؤدي إلا إلى نفور. الواقع على العكس من ذلك تماماً فهو يخبرنا أن نبحث عمن يختلف عنا لعل اختلافه يمكننا من سد ما ينقصنا لنجابه الحياة، فلا أظن أن هناك من يرغب أن يقضي حياته مع نسخة أخرى من نفسه، ولو افترضنا جدلاً أن غروره تمكن منه ورضي بذلك، فحتماً سيقتله الملل. حدثني صديق لي بأنه قدم نصيحة مالية ستجعل سائله النصيحة ومن يعليهم في رغد من العيش لفترة كافية من الزمن، وللإنصاف فإنه قد أخلص النصح ووُفق للصواب، ولكن عجباً لم يلتزم سائل النصيحة بها مع اقتناعه التام بجدواها، والذي لم يأت إلا بعد عملية طويلة دقيقة من التثبت والتأكد من أن جميع خطوات الحل وإجراءاته قابلة للتنفيذ حتى لم يبق للسائل سوى العزيمة على الفعل الذي لا يستغرق منه سوى بضع دقائق. شاركت صديقي الاستغراب والتعجب الذي وصل به حد السخط، وقضينا وقتاً نبرر منطقياً سبب تأخر الشخص في أن يأخذ بالنصيحة، وعبثاً ظننا أن الإنسان كائن منطقي غير عبثي أو عشوائي في قرارته، ونسينا أنه قد يمتنع لأسباب عدة - ليست جميعها بالضرورة منطقية - قد يكون امتنع بسبب مزاجه في تلك اللحظة أو ربما الخوف من المجهول أو الحدس أو مجرد كره لأسلوب النصيحة أوقد يكون لمنطق آخر غُيب عنا. كمال الإنسان في نقصه، وكمال الحياة في اختلافها، والحقيقة حمالة أوجه، ولا يستطيع شخص ما أن يزعم أن ما يراه وحده هو الحقيقة، وما يراه الآخرون وهم مخالف لها، فليس هناك حقيقة مطلقة ثابتة، فالحقيقة نسبية متغيرة كالإنسان الذي يبحث عنها. الرأي ليس حقيقة، والحقيقة ليست في رأي واحد، فالظروف تتغير، ويحكمها الزمان والمكان اللذان لطالما بدلا نظرتنا للأمور، فلا تحجر واسعاً، ولا تقضي حياتك ضيق الأفق، فالحياة قادرة على أن تحتوينا كلنا مهما كنا مختلفين ومتناقضين، قادرة على أن تستوعب ذكاء قرارتنا وحماقتها، قادرة على أن تستجيب لمن يعيشها بعقلانية ومن يعيشها بعشوائية ودون حساب، فهذه هي سنة الحياة التي جُبل عليها البشر، ولولا اختلاف الآراء لبارت الحياة. نشر مقال