لو حدثك أحد بأن الناس تتعمد إحداث سوء الفهم، لربما وصفته بالجنون؛ لكن دراسات في علم النفس المعرفي، وفي اللسانيات الإدراكية قد توصلت إلى أن سوء الفهم الناتج عن التواصل الطبيعي بين جماعات البشر هو مقصود، بل ومبرمج على أن يتمادى في التواصل. وتزداد خطورة هذا الكشف، كلما عرفنا أن الإنسان يصف جنسه، بأنه كائن عقلاني، ومحب للخير وللسلام. فهل الفهم مناف لشروط الوئام بين البشر؟ لكن السبب الفعلي في حدوث الصدمة من ذلك الكشف هو هيمنة أسطورة الموضوعية عند التعامل مع قضايا الحقيقة، ناهيك عن مسألة الإطلاق التي تستلزم الإحاطة بكل العوامل التي تنسب إليها الحقيقة من أجل تصور كامل للحقيقة بكل أبعادها، وهو أمر مستحيل. وحيث إن الحقيقة قائمة على الفهم، وجميع التصورات المجازية التي تدخل في ثقافة كل مجتمع هي العربة الأساسية للفهم، فإن التفكير بأن ذلك المجاز سيكون حقيقة هو السبيل لجعل الحقيقة تعتمد على المجاز؛ فتصبح بالتالي حقيقة أي جملة متناسبة مع الطريقة المعتادة لفهم العالم من خلال هذا الكيان البنيوي الذي ننظر منه إلى الواقع. وإذا نظرنا مثلاً إلى إحدى مراحل الحياة، التي تستوقف الإنسان كثيراً، مثل: «الموت»، وهو الظاهرة الأكثر جذباً لانتباه البشر، بسبب توقف بعض السمات الفيزيائية والبيولوجية المهمة؛ فإن المرء يحاول عبثاً أن يفهم الموت من تجربته بموت الآخرين، أو من الملاحظات التي تجمعها علوم الحياة والطب والنفس واللاهوت والتاريخ والأثنولوجيا والأنثروبولوجيا عن ظواهر الحياة والموت، لأن التفسير الوجودي للموت - أي موتي أنا - يتقدم على هذه التفسيرات جميعها ويفترضها. ولكن من منا يبلغ هذا الفهم الأصيل للوجود – الموت؟ ألا نعيش حياتنا اليومية مقيدين بحياة «التوسط» وما يقوله الناس ويملونه علينا؟ وما الذي يميز هذا الوجود اليومي للموت – هذا الوجود غير الأصيل الذي يلقي بظلاله علينا ويحاول دائماً أن يمدنا بالراحة والعزاء، ويخفي عنا فاجعة الموت؟ لن يتعذر علينا تبين ملامح هذا الوجود اليومي للموت، لأننا سنعرفها من خلال ما عرفناه من قبل عن «الناس» الذين يكوّنون الرأي العام ويعبرون عن أنفسهم باللغو والثرثرة. إن للناس أيضاً فهمهم للوجود من أجل الموت. فكيف يفهمونه ويثرثرون عنه؟ في كل مرة تحدث فاجعة الموت، ولكنه لا يعنينا الآن ولم يصبنا في هذه المرة على الأقل. كل إنسان يموت، أي لا أحد يموت بحق. هذا هو الالتباس الذي يقع فيه الناس حين يلغون ويثرثرون عن الموت. ولا يعدو هذا أن يكون نوعاً من عدم الاكتراث بهذه الإمكانية القصوى، وإذا انشغل بالموت – كأن يبدي شيئاً من الرعاية للآخر الذي يحتضر – فإنما يفعل هذا ليقنعه بأنه سوف يشفى، ويرجع للحياة اليومية المألوفة، أو يهمس في سمعه بالكلمات المحفوظة: «الموت حق على كل إنسان»؛ «الآخرة خير من الدنيا»؛ «الحياة الحقيقية هناك»... إلخ. الموت عند الناس يقيني، محتوم ولا مفر منه، ولكن هذا كله يأتي من تجربتهم بموت الآخرين، بحقيقة معروفة جربها كل الناس قبلنا، وقد تقع لمن «نرعاه» ونعزيه عنها، ولكنها لم تزل بعيدة عنا مؤقتاً. ومثل هذا اليقين المزعوم يلغي اليقين المميز للموت ويحجبه - أعني يقين إمكانه في كل لحظة - وهو الذي ينبع من إمكانية الوجود الخاصة بالوجود الإنساني نفسه. وهكذا تترى تجارب البشر في حجب الفهم العفوي لديهم بفهم مزيف ومقصود، لأنه يتماشى مع ما يرغب فيه المرء بتسويق ما يود الناس سماعه، وليس ما يظنون أنه الموافق لما في أذهانهم.. فهل هم من يخدع أم العقول تناور وتُصرع؟