في معرض الفنان القدير « منذر شرابي» الذي اختتم فعالياته مؤخراً في جاليري نسما آرت بجدة، تحت عنوان (مراحل) ينقلنا من مرحلة لأخرى بذات القدر من الإبداع والقدرة على الخلق والابتكار والتأقلم والتحول بخطىً ثابتة ومدروسة تمثل لديه نقطة تحول قد يراها البعض مرحلية وآراها جوهرية في مسيرة الفنان وهي تجربة كما بدأت إبداعياً لم تنته إلا بذات القدر من الحس الجمالي الموروث من تراث عريق متأصل في وجدان الفنان منذ بدء وعيه بالفن التشكيلي وحتى تاريخه المعاصر.. وما زالت لديه القدرة على العطاء بشباب وقوة وعزيمة لا تلين ولا تهين.. حيث استن لنفسه سُنةٍ، سار على هداها وخطا مستقيما غير قابل للاعوجاج أو التعديل أو التبديل إلا بما هو أفضل مشى على دربه ولم تختلف في نهجه التشكيلي إلا الفكرة التي ينشدها.. هو أحد البنائين التأثيريين والانطباعيين المحدثين وأكثرهم خبرة وقدرة على العطاء والانتاج وحباً وعشقاً وارتباطاً للتراث في الفن التشكيلي العربي المعاصر ومهارة وثقافة ورؤية ثاقبة للواقع والبيئة المحيطة اكتسبها بمشاركاته الجادة في محافل ومعارض خارجية ومحلية عديدة أهلته لحصد المزيد من الجوائز.. يطرز أعماله بقوة اللون وضربات فرشاته السريعة القوية متحدياً الطبيعة وصولاً لحتمية المشهد التراثي بإشعاع النور وعتمة الظل وتراقص الخطوط ومواجهاً لانكسار الضوء ليتمكن من استنطاق القيمة الجمالية للتراث والمفردات البيئية. وعلينا إذاً ونحن أمام لوحاته أن نتخيل كيف يحول « منذر الشرابي» مسطح اللوحة الأسود بخطوط واتجاهات عرضية إلى ترانيم وسيمفونيات يكتبها بنوتة موسيقية تعزف للمشاهد أحلى نغمات التراث العربي الأصيل فيحولها إلى شوارع وحارات وأزقة وحوانيت تمتلئ بالأسطوات والبشر على مختلف ألوانها وأشكالهم وبخط لوني واضح وصريح غير قابل للخلط أو التلميح.. رابطاً بوجدانه الثري التراث الحجازي التليد من مشاهدات إقامته أخيراً في جدة عروس البحر ومبانيها العتيقة.. مع أيام الصبا التي قضاها في حلب رمز الصمود والحضارة التي نشأ فيها وترعرع وشهدت نجاحاته على المستوى المحلي كمنصة انطلاق لإبداعه الى الفضاء الخارجي بتراثها الشامي العريق وحدت لديه الطراز البنائي المميز للفن الإسلامي العريق دون غيره من الفنون الأخرى بجمال القباب وعناق المآذن على مختلف العصور والأزمنة والدهور.. ففي ذات القدر الذي نتعايش معه في أعمال «منذر شرابي» التراثية بجمالها وعراقتها ينقلك إلى مشاهد أخرى للدمار الذي فعلته آلة الحروب الهوجاء بهذا التراث الشامي الأصيل وهي تتهاوى أمام عالم ساكت وصامت تحول جمال المكان وبهاءه إلى مخيمات تسكنها وجوه مكلومة حزينة تعاني شظف العيش وتئن تحت وطأة التهجير وتلطخ أجسادها آثار الدماء من خلال لوحته (صرخة المظلوم).. فهو فنان وطني أصيل يتعايش لحظة بلحظة مأساة شعب ومحنة أمة يُدمر تراثها ويهجر أولادها وييتم أطفالها وتستبيح دماؤهم الطاهرة. تلك قضية لم تعد في فكر فناننا «منذر الشرابي» وحده فحسب والتي صورها بخبرة ومشاعر الفنان وحسه الواعي في تحولاته ومراحل أعماله الأخيرة. * فنان وناقد تشكيلي من أعمال منذر شرابي