يعتبر عدنان الصائغ اليوم من التجارب الشعرية المهمة في المشهد الشعري العربي، وهو الشاعر الذي ولدت تجربته من رحم الحرب والمنفى، وانفتحت على التجريب في محاولة لإيجاد هوية شعرية خاصة به، مما أورث هذه التجربة غنى وتنوعاً وتعدداً في إمكانات القراءة. وتحمل مجموعته (و.. ) هذا الميل التجريبي الذي يمكن ملاحظته من صفحة الغلاف وعنوان المجموعة من حيث هما عتبته الأولى. إن المطلع على هذه المجموعة لا يمكنه إلا أن يلاحظ هيمنة ثيمات لم تغب عن شعر الصائغ سابقا، ألا وهي الحرب والمنفى والأصدقاء والموت، بحيث يمكن القول إن شعرية الحرب والمنفى هي الشعرية التي تفجر التجربة الإبداعية وتجعلها تتمرد على القالب الثابت والمكونات الجاهزة، حيث عمد الشاعر إلى التجريب في نصوصه عبر مناح إيقاعية وبصرية وبنائية. ومن ذلك أنه استفاد من التشكيل البصري وتوزيع النص على البياض بأشكال غير متناظرة، كما استفاد من التقطيع الصوتي عبر تكرار متعمد لبعض الأصوات بشكل يصنع صدى صوتيا وقرائيا لافتا . وبالإضافة إلى ذلك لجأ إلى تجريب جوهري جمع فيه قطبا العملية الإبداعية: الشعر والنثر بحيث ينفتح أحدهما على الآخر فيتجاور النثر الشعري والشعر النثري والتفعيلي في نصوص واحدة أحيانا، وفي نصوص متعاقبة أحيانا أخرى، جنبا إلى جنب مع القصيدة القصيرة جدا، حيث يجرب الصائغ كل إمكانات النثر والشعر في تنويع على جوهر واحد هو الشعر المفتوح على الوجود بكل تجلياته. لم يأت التجريب في هذه المجموعة عبثياً أو لمجرد الرغبة في التجريب، بل كان محاولة للاحتماء بالشعر والسكن فيه في وقت كان فيه الشاعر مسكوناً بالوطن والمنفى، لتصير القصيدة هي الوطن والشاعر في الوقت نفسه، إنها مرآة الذات حين تشتد الخصومات ويزداد الوطن ابتعاداً. ولهذا يشترك الثلاثة في ضمير واحد ويتماهون في كيان كلي متعال، وهو ما يتفق مع عتبة العنوان التي تشكلت من: عدنان الصائغ، و..، شعر، كما يتفق مع عدد من النصوص التي يتحقق فيها ذلك التماهي (ما الذي أصنع الآن ؟ / هم حاصروني بلادا وأفقا/ وسدوا بوجه القصيدة كل المنافذ/ أجلس في حانة لأقول: بلادي/ وأشرب نخب الغياب/ دمعة أو كتاب) فالأنا/ القصيدة تقف في مقابل ال "هم" الذي يمثلون الآخر السلبي، ووجوه العداوة والحصار. ومن هنا فالطريق إلى الوطن والانتصار على المتشاعرين لن يكون إلا بالقصيدة (لي خمسون عاماً أستظل بغيمة أو خيمة مثقوبة وطناً ومنفى. والطريق إليهما ذات الطريق إلى القصيدة)، فالوطن الذي تناهبه الطغاة، والقصيدة التي تناهبها المتشاعرون وجهان لشيء واحد، وكلاهما يحمل معاناته وله أعداؤه، وكلاهما يلتقيان في ذات الشاعر الذي يحمل الوطن والشعر ملاذا وهوية. من هنا يكون التجريب شكلاً من أشكال اختبار القصيدة والذات معاً، وقد حفلت المجموعة بأكثر من منحى تجريبي - كما سبقت الإشارة - لكنني سأقف عند القصيدة القصيرة جداً على اعتبار أنها شكلت أحد الملامح الواضحة في هذه المجموعة. وقد عمد الشاعر إلى التجريب أيضاً في صياغة هذه القصائد، حيث ورد بعضها تحت عنوان رئيس "تشكيل"، وجاء في تسعة تشكيلات تحمل كل مجموعة منها محوراً رئيساً تدور حوله كالمرأة أو الشعر أو الحياة وغيرها. وقد فصل الشاعر بين هذه النصوص وبين مجموعة أخرى وضعها تحت عنوان آخر هو "قصائد قصيرة"، حيث احتوى هذا العنوان على مجموعة أخرى من القصائد القصيرة جداً لكن كل واحدة منها جاءت مستقلة بذاتها وتحمل عنوانها المستقل، إضافة إلى قصائد قصيرة أخرى جاءت متناثرة عبر صفحات المجموعة . عدنان الصائغ