الحقيقة أن ظاهرة «قبلية المدن» معقدة جداً، لأنها ليست حالة ظاهرة فهي تتخفى، ولا يمكن اكتشافها إلا بعد أن تستشري ويحدث الضرر.. توقفت عند قول "فرنانديز تونيس" إن المدينة هي "خروج الإنسان من العشيرة إلى المجتمع"، فهو يرى أن كل فرد يبدأ في التخلص من هيمنة "الجماعة"، وتأصيل الاستقلالية الفردية، عندما يصبح إنساناً مدينياً، فهل فعلاً مدننا المعاصرة حققت هذه الفردية التي تعطي الإنسان إحساسا بالحرية والانفصال عن "العشيرة"، أم أننا نقلنا للمدينة ثقافة "الجماعة"، و"الأسرة الممتدة" وشكلنا بها مجتمعاتنا المعاصرة إلى الدرجة التي تأثرت بها النظم الإدارية والمجالات الاقتصادية بشكل عام. في الحقيقة ما دعاني إلى التفكير في قول "تونيس" هو تحول بعض المؤسسات الحكومية التعليمية، وغير التعليمية، إلى تجمع وظيفي قبلي، فأصبحت هذه المؤسسات صورة أخرى لمضارب القبيلة. سؤالي هذا يمتد إلى مفهوم المجتمع العمراني، إذ يبدو أننا صنعنا ظاهرة عمرانية/ اجتماعية خاصة بنا ليست لها علاقة بمفهوم المجتمع المتمدن لأنها ظاهرة تعيد توليد تقاليد القبيلة والعشيرة رغم تمدنها الظاهري. تذكرني هذه الظاهرة بالمد الغريب لتريف المدن، أي تحول مدن عملاقة مثل القاهرة وغيرها، من مدن في الثمانينيات من القرن الماضي، إلى مجموعة من القرى يغلفها عمران مدني ظاهري، بينما هي في مكونها الاجتماعي عبارة عن "ريف" كبير. وبدلاً من أن تشكل المدن المهاجرين من الريف، هم الذين شكلوا المدينة بثقافتهم الاجتماعية وأنماط حياتهم الريفية. الفرق في المملكة، أن مدننا نمت وامتدت لتحمل في طياتها مكون العشيرة، وتأصل هذا المفهوم وأخذ أشكالا متعددة، مكانية كاستقطاب بعض الأحياء لفئات اجتماعية من مناطق وأسر محددة، وثقافية وإدارية وهو الاخطر كاستقطاب بعض المؤسسات الحكومية لفئات اجتماعية بعينها. كل هذا صنع مدناً "غير متمدنة" إن جاز هذا التعبير من الناحية الاجتماعية لا من ناحية الشوارع والمباني. يذكرني هذا بدراسة أجريت على المدن العربية في السبعينيات أكدت على أن هذه المدن تطورت عمرانيا بشكل عام، لكنها لم تتطور على مستوى السلوك والتقاليد. أي أن هناك فجوة صارت تكبر تقريبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بين العمران المادي، وبين العمران الاجتماعي في أغلب المدن العربية، ومع مرور الزمن ازدادت هذه الفجوة اتساعا إلى الدرجة التي بات من الصعوبة بمكان جَسر هذه الفجوة. المشكلة الأخطر هي أن هذه الظاهرة تغلغلت في النظم الادارية، وشكلت تزاوجاً بين رأس المال وبين القبيلة الذي نتج عن خلل في توزيع الفرص، وجعل من البعض ذوي حظوة، والبعض الآخر على الهامش، نتج عنها تصاعد الفوارق الاجتماعية ليس نتيجة للمهارة والقدرات الذاتية، بل للانتماء القبلي في أغلب الأحيان. القاهرة مثلاً ، تخلصت من الكثير من مظاهر تريف المدن خلال الثلاثة عقود، لكنها لم تتخلص من الخلل الاجتماعي الذي صاحب تلك الظاهرة، فالحل العمراني المادي ممكن، لكن الحل الاجتماعي صعب للغاية، وعندما تنتقل القبيلة والعشيرة للمدينة ليس بصفتها المادية الظاهرية بكل محتواها الثقافي والعصبي يصعب محو هذه الظاهرة لأنها ستكون متغلغلة في مجتمع المدينة عبر الاجيال. استطيع أن أقول إن مدننا لم تنجح في تحقيق الاستقلالية الفردية، ولم تساعد كثيرا على إطلاق طاقات الأفراد وإبداعاتهم. على أن الأمر الغريب هذه الاستكانة الاجتماعية لهذه الظاهرة التي لم يستطع التعليم، ولا التطور العمراني المادي، والتغير الكبير في أنماط الحياة، أن يغيرها كثيراً (إلا لدى فئة محدودة). في اعتقادي أن الفرص السهلة التي توفرها هذه الظاهرة للبعض، هي التي تجعلهم يتمسكون بها لأنهم يخافون من عواقب التنافس والتوزيع العادل للفرص. الحقيقة أن ظاهرة "قبلية المدن" معقدة جداً، لأنها ليست حالة ظاهرة فهي تتخفى، ولا يمكن اكتشافها إلا بعد أن تستشري ويحدث الضرر. إنها تثير سؤال الانتماء، فهل هو للوطن الذي يفترض من الفرد أن يقدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، أم للقبيلة التي تسهل حصوله على ما لا يستحق (أحيانا). هذا السؤال يجعلني دائما أفكر في معنى العمران وتأثيره الاقتصادي بعيد المدى، خصوصا إذا كان عمرانا يتحدى العدالة الاجتماعية وينحاز للأثرة ومصالح القلة على حساب الكثرة.