(1) أتوقف كثيرا عند كلمة «عتبة» كمصطلح يصنع الكثير من الجدل داخلي ويجعلني أرى كل ما حولي ممتلئاً بالحدود. كنت أحاول أن أتخيل المدينة كمجموعة من العتبات أو مجموعة من الفواصل، خطوط حمراء توزع المدينة ذهنياً إلى «كنتونات» بشرية وفيزيائية لا يمكن وضع حدود مرئية لها. فواصل تولد الاختلاف، ومن هذا الاختلاف تظهر الأعراف والتقاليد وتتطور الأنظمة والقوانين. في اعتقادي أن فهم هذه الحدود هو فهم لثقافة المدينة الأمر الذي يمكننا من السيطرة عليها وتحويلها إلى بيئة قابلة للحياة. وما أقصده بالسيطرة هنا ليس أمنيا فقط، وإن كان هذا احدى الميزات التي يمكن أن نجنيها من «تفكيكنا» لفواصل المدينة وخطوطها الحمراء، ولكن يتسع مفهوم السيطرة إلى صنع «إحساس المدينة» عن طريق فهم الحركيات الثقافية والاجتماعية التي تطبع الفضاءات الفيزيائية بطابعها. عتبات المدينة تصنع شخصيتها وتوجد الروابط بين الناس، ولأنها مجموعة من الحدود التي يتكثف حولها كل التاريخ الاجتماعي والعمراني لذلك فإننا نتوقع أن أي محاولة للفهم هي محاولة للغوص في «عبقرية المكان» من ناحية ومن ناحية أخرى هي محاولة لتفسير هذه العبقرية تاريخيا، وهو ما يعني البحث عن مجموعة المعاني التي فسرها الناس لعتبات مدينتهم عبر الزمن. (2) قلت في نفسي كيف يمكن أن أتعرف على عتبات المدينة، كيف أرى هذه الخطوط الحمراء؟ إذ يبدو أنها تمثل حدوداً كامنة غير مرئية، وتوصلت إلى لاشيء إذ أنه يمكن قراءة تلك الخطوط كل مرة بشكل مختلف، هذا إذا استطعت أصلاً تحديد بعض العتبات التي يمكن أن أبدأ منها، وصرت أتساءل إذا ما احدنا حاول أصلاً فهم المدينة على أنها تتشكل من مجموعة من الحدود الفاصلة التي تنظم العلاقة بين البشر بعضهم ببعض والمباني وكل الأشياء التي تحتويها المدينة. وبدا لي الأمر أنه بحاجة إلى المزيد من التأمل والبحث والأكثر من ذلك تحديد بعض العتبات الواضحة التي يمكن الدخول منها إلى هذا المجهول الذي أعتقد أنه يمكن أن يجعلنا نخطط للمدينة عمرانياً واقتصادياً وثقافياً بشكل مغاير عما نقوم به في الوقت الحالي، فمدننا مازالت تستعصي على الفهم ومازلنا نتعامل معها بطريقة سطحية وكل قراراتنا حول مستقبلها أكثر سطحية من فهمنا لها، والأمر الذي بت متأكداً منه أنه يتحتم على من يريد وضع قدمه على عتبة من عتبات المدينة أن يتوخى الحذر، فهي ككل العتبات شبه محرمة، ويجب عليه أن يتأكد أن لديه الإذن بتخطي تلك العتبة. هذا «المحرم» يزيد من إشكالية العتبات ويضع العديد من العراقيل التي تباعد بيننا وبين الدخول في بنية تلك العتبات وتطورها التاريخي. (3) ويمكنني هنا أن أتحدث عن عتبات «نفسية» وأخرى «مادية»،، وجميعهم يحتوون على عدد من الموانع وعبارة «لا»، و«لا يصح» و«غير مسموح» والكثير الكثير من محرضات «الرقابة الذاتية». من تلك العتبات النفسية الرسالة الإلكترونية التي يقول لي فيها أحد الزملاء إن المقال السابق «مساكن للفقراء تزيد من الفقر» متداول في منتدى ملتقى المهندسين العرب، وإنني أواجه هجوماً لاذعاً من أعضاء المنتدى، كوني تعرضت للمعماري حسن فتحي بالنقد. فقلت في نفسي يبدو أني قد تخطيت «عتبة محرمة» دون أن أعلم. وذهبت فعلاً للملتقى ووجدت حواراً راقياً جداً، ربما متشنج من البعض لكنه في مجمله مشجع ويؤكد أننا مقبلون على ثقافة معمارية عربية ذات قيمة وفي فترة قصيرة بإذن الله. ومع ذلك فقد كان واضحاً أن البعض يرى أن النقد احدى عتبات المدينة «المحرمة»، مع أننا لا نتوقع أن يسود مناخ إيجابي في المدينة دون نقد، لذلك أقول للزملاء الذين لم يرق لهم نقد قامة معمارية عظيمة مثل حسن فتحي، إن النقد الموضوعي لا يستثني أحداً، وأننا إذا ما أردنا أن نصنع ثقافة معمارية تحظى باحترام القراء وتكون مؤثرة إيجابياً في عمران المدينة يجب أن نكون أكثر تجرداً من انحيازاتنا الذاتية. «عتبة النقد» المحرمة، تجعلني أعيد التفكير في «عتبات المدينة» كونها عتبات تحتاج الى مقدرة فائقة على رؤية ما هو غير منظور، وإلى تجاوز سطوة الصورة الأولى والمعرفة البديهية التي تعطينا إياها. وما يجعل «عتبة النقد» فاعلة هو البحث في ما «بعد الصورة الأولى»، والذي أقصده هنا أنه يفترض منا أن نحاول أن نتجاوز المعنى الظاهري الذي يمكن أن تقدمه لنا المدينة (أو حتى النص المكتوب)، إلى المعاني الكامنة فيها، إذ لا يمكن أن نرى عتبات المدينة دون الغوص عميقا في ذلك الكامن الغامض، وتلك الروابط التي تتشكل دون أن تظهر، فهناك تتجرد المدينة وتنفض عنها كل رداء حاولت به تغطية ما لا ترغب في إظهاره لأولئك الذين يكتفون بصورتها الخارجية. (4) بعد جرعات اللوم التي تلقيتها نتيجة تجرؤي ودخولي لعتبة محرمة في نقد المدينة، أو أحد صناعها الذين يحظون بهالة من القداسة، كانت هناك فرصة لمناقشة طلاب السنة النهائية في قسم العمارة حول «عتبات المدينة» وما طرح في المنتدى كونه طرحاً ينحى في بعضه «للمسلمات» وتكريسها كنوع من الغاء العقل الذي تدفع به بعض «العتبات النفسية» التي يستغلها البعض كسلاح يعوض عن الجهل وعدم المقدرة على الدخول في جدل فلسفي علمي، وبعضه الآخر يحاول أن يتنصل عن «ثقافة الاستسلام»، ودار نقاش حول النقد بصفته الآلية الوحيدة التي تمكننا من فهم عتبات المدينة، وقررنا أن نخوض تجربة تحليلية لبعض الظواهر التي نعتقد أنها قد تقودنا لفهم بعض العتبات الكامنة. وكان الطرح بسيطاً لكنه جاد وبدأ بسؤال من أحد الطلاب عن ظاهرة ملاحق الرجال التي صارت تمتلئ بها البيوت السعودية الحديثة، إذ لا بد أن لهذه الظاهرة من أسباب أو أنها صنعت أعرافاً وتقاليد يمكن أن تقودنا لفهم بعض الحركيات الاجتماعية والثقافية في المدينة السعودية المعاصرة. والحقيقة أن الفكرة راقت لي وقلت للجميع دعونا نبحث في المسألة. (5) هذه الظاهرة مثل ظواهر كثيرة في المدينة يمكن أن تجعلنا أكثر قرباً من سكان المدينة، كما أنها ككل الظواهر الثقافية لها عمق تاريخي يصعب تتبعه لكنه ليس مستحيلا. فعتبة المسكن على سبيل المثال تمثل خطا فاصلا بين الداخل والخارج تحوم حوله كل المحرمات في كل ثقافات العالم، وهو أمر ليس بجديد، ووجود ملحق للرجال بالقرب من العتبة «في الغالب» له ما يبرره تاريخيا، إذ أن كثيراً من المساكن التقليدية كان يوجد فيها ما يمكن أن نسميه «العتبة المرنة»، أي أن مجلس الرجال، رغم وجوده ضمن المسكن، إلا أنه غالباً ما يكون له مداخله المنفصلة عن مداخل الأسرة، بحيث يكون قسم الرجال شبه عام وتتحول عتبة المسكن الرئيسة الى عتبة داخلية تفصل قسم الرجال عن قسم الأسرة، حتى أنه يوجد بابان متعاقبان في المساكن في بعض البيئات القديمة أحدهما الباب الرئيس ويقود الى مجلس الرجال ويكون مفتوحا طول النهار بينما الآخر باب يفصل الجزء الداخلي الخاص بالأسرة وهو مغلق. «العتبة المرنة» هنا كانت مسألة أساسية لتفاعل الأسرة مع المجتمع والمحافظة على خصوصية الأسرة في نفس الوقت. وفي اعتقادي أن ملاحق الرجال المعاصرة هي محاولة لاستعادة العتبة المرنة كونها أساسية بالنسبة لثقافة الأسرة السعودية ويصعب التنازل عنها حتى لو اختفت مؤقتاً. وبالتأكيد فإن أسوار المساكن وبوابتها كلها نتائج هذه العتبة المعقدة، التي هي جزء من هوية الأسرة وتعبر عن تميزها ونتيجة لاختفاء العتبة المرنة في فترة التحول نحو المدينة الحديثة. هناك أمر آخر لا يمكن إغفاله هو أن المسكن التقليدي كان يوجد به عتبات منظمة بشكل تراتبي أي أنه يوجد هناك عتبة رئيسة «مرنة» وعتبات ثانوية تنظم الخصوصية داخل المسكن وبين أفراد الأسرة، والفرق بين العتبة الرئيسة والثانوية شاسع في مسألة «التحريم» وبالتالي في تطور الأعراف والتقاليد حولها. (6) ويبدو أن هذه المحاولة التاريخية لفهم بعض العتبات المعاصرة أغرت بعض الطلاب لإثارة أسئلة حول المدينة بصورة أكثر شمولية حيث يمثل الشكل العمراني أو نسيج المدينة عتبة غامضة يمكن من خلالها فهم المجتمع وتحولاته العميقة، وكان التركيز على تحول الأحياء السكنية المعاصرة إلى خرائب وظاهرة الهجرة المستمرة داخل المدينة. والحقيقة أن هذا السؤال واسع جداً ولا أدري إذا ما كان يمكن أن نجد عتبات واضحة يمكن الدخول من خلالها لتفسير الظاهرة. كانت البداية من تحليل الشكل العمراني التقليدي الذي يتميز بعد الانتظام، وتوصلنا إلى أن الأصل في شكل المسكن هو شبه الانتظام وأن أشكال المساكن غير المنتظمة هي إما نتيجة لكونها بنيت في الفراغات التي خلفتها المساكن القائمة والتي غالبا ما تكون غير منتظمة نتيجة للتكوين المتضام، أو نتيجة للتقسيم المستمر للمسكن، إذ أن الإرث والشفعة وحق المرور كلها عتبات أساسية شكلت التكوين العام للنسيج العمراني التقليدي. وهو ما يجعل الشكل غير المنتظم هو الغالب في المساكن فإذا حدث وأن شاهدنا مسكناً منتظماً في شكله فهو إما أن يكون قديماً جداً ولم يقسم أو أنه مبني على طرف الحي السكني وفي منطقة فضاء أو أنه نتيجة لاندماج أكثر من مسكن. ومن الواضح أن كل هذه المظاهر المادية للشكل العمراني كانت نتيجة لاستجابة مباشرة لحركية المجتمع وتحولات الأسرة التي كانت تحتاج البقاء في مكانها لفترة طويلة من الزمن حتى أن الحارات كانت تسمى بأسماء الأسر، وهو ما كان يتطلب ديناميكية عالية في النسيج العمراني. والذي يظهر لنا أن الشكل العمراني المعاصر لا يتمتع بأي من هذه الصفات لأنه لم يحترم العتبات التي صنعت النسيج العمراني التقليدي حتى أنه عندما حاول بعض المعماريين تقيد الشكل القديم لم تكن المحاولة موفقة لأن المسألة ليست في الشكل الظاهري بل في آلية صنع الشكل وتفاعله مع العتبات التي تنظم المجتمع. إذن هجرة الأسر المستمرة داخل المدينة تعبر عن عدم الرضى وعن خلل واضح في العتبات المنظمة لعلاقة الأسرة مع محيطها الفيزيائي، وفي اعتقادي أن البحث بعمق في مثل هذه الظواهر يجعلنا نتحمس لإعادة قراءة المدينة مرة أخرى. (7) وكل ما أود أن أقوله هنا أن كل خط تخطه في المدينة يحدث عتبات لا نهائية لا نستطيع أن نتكهن بتأثيرها، فالحظ هنا مسؤولية لأنه يصنع حدوداً ويفصل بين عالمين ويزيد من تعقيدات المدينة، فإذا كان ولا بد أن نخط هذا الخط إذن لنعمل جاهدين أن يكون في مكانه الصحيح. عتبات المدينة التي نصنعها والتي تصنع نمط حياتنا، تفرض علينا تفكيراً إدارياً مختلفا يجعل من فكرة المشاركة هي الأساس في عملية اتخاذ القرار الخاص بالمدينة. ولعل هذا هو أحد أهداف المجلس البلدي «المشاركة»، ومع ذلك فإن أستاذنا بسيم حكيم (وهو بروفسور سبق له التعليم في كلية العمارة بجامعة الملك فيصل والآن يعمل في مدينة البكركي بنيومكسيكو في الولاياتالمتحدةالأمريكية) وفي محاضرة ألقاها قبل عدة أيام في البحرين يؤكد أن الأمر بحاجة الى اكثر من مجرد المشاركة. ويؤكد على مجموعة من السياسات والاجراءات التي يجب أن تطور وأن توضح لمتخذ القرار، وفي اعتقادي أن تلك السياسات هي جزء من عتبات المدينة التي يبدو أن علينا أن ننتقي الأهم منها كل مرة وحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المدينة حتى يتسنى لها أن تصنع بيئة فاعلة ومتفاعلة.