كلما دخل الغابة اختار له مكاناً لا تسكنه الشياطين ولا الأرواح البيضاء هناك عند الياسمين يجرب أن يتأمل المنظر جيداً، وأن يستطعم شكل تلك العزلة حينما يختلط بداخله أكثر من ضياء في شكل "توق" واحد لم يشأ يوماً أن يثير الأسئلة الشائكة بداخله، إنما تركها حتى تأتي بنفسها لتقول كل ما عندها.. دون أن يتعب نفسه في التفتيش عن تلك الإجابات المتأنقة، فالسؤال دوماً أصعب ما في المرحلة تلك.. يأتي الروائي والقاص العراقي "ضياء جبيلي" حتى يقول بأنه لا يدخل الطقوس من أجل الكتابة، بل إنه يكتفي بشخصيات تدور حول كتاباته حتى يتحول بفعل الورق إلى واحد منهم، فالموت حالة هستيرية لا تسكن الحدود فقط وإنما قد تأتي من الطيران، والحياة دوماً هي أن تقف خلف الباب وأنت تعرف بأنه ربما لا أحد يقف خلفه ينتظرك.. وبكل تلك البساطة يتحدث عن الحب وبأنه ليس الحالة الوحيدة التي تستدعي أن نكون "مغفلين من أجله".. وبأنه يعيش "ببصرة" واحدة جذورها تضرب روحه بعشق أكثر من كونها مجرد مكان ولد وعاش فيه. وبأن الجاذبية الكبرى تكمن في تلك الحالة التي تسيطر عليك فترتبط بها دون أن تحسن التخلص منها. لا يقطف ضياء جبيلي الياسمين هنا.. إنما يتركها تبوح بما لديها ثم يدير ظهره عنها ويغادر ليكمل طريقه..و الوطن: * نعيش في المكان الذي نُخلق فيه ونحن لا نعرف سوى وجهه، ولا نشم سوى رائحته.. نحن لا نسكن الوطن بل إن الوطن يسكننا.. والعراق مازال الوطن المشتهى حتى لمن لم يسكنه.. كيف هو العراق في عيونك؟ ومتى آخر مرة وعدك بالمجيء وأخلف وعده معك؟ إنها «البصرة» تمتلك مفاتيح «السر» وشفرة «القلب» * لا يمكنني القول: لم تعد صورة العراق كما كانت في الماضي. فأنا لا أتذكر أو أقرأ يوماً أن هذا البلد استقر لأكثر من خمس سنوات. كان السياب يلهج بكلماته الشهيرة في أنشودة المطر "ما مر عام والعراق ليس فيه جوع" والجوع هنا لا يعبر بالضرورة عن جوع البطون، إنما الجوع إلى الكثير من متطلبات الحياة، كالاستقرار، الحريات، العدالة، التطور، الأمان، وغيرها الكثير. لم أغادر العراق، وأظن هذا هو جوابي عن سؤالك بشأن صورة هذا البلد في عينيَّ. وعلى الرغم من ذلك، أشعر أثناء الكتابة أني خارج الغابة، فالمراقبة عن بعد تخلق نوعاً من التركيز وقوة الملاحظة. ولا يعني هذا أني أراقب من برج عاجي، فأنا في الوقت نفسه أعيش وسط الحريق، وأكتوي بنيرانه كل يوم. أنتِ قلتِ في سؤالك: نحن لا نسكن الوطن بل الوطن يسكننا. ولا أظن أن ثمة من له القدرة على التخلي عن الوعود بينما هو يعيش فينا. الوطن مفهوم أكبر من أن نعبر عنه بالشكليات والمجازات. الجاذبية الابدية: * هناك ارتباط وثيق بينك وبين مدينة "البصرة" تلك العلاقة تحضر في كل ما تكتبه وكأن "البصرة" حبيبتك التي لم تتزوج منها فبقي حبها عالقاً في روحك.. فرواياتك لا تخرج عن هالتها.. ما سرك مع تلك البصرة؟ وهل يصعب على الكاتب أن يخلق عوالم روايته في أمكنه لم يأتِ لها يوماً ولم يزرها؟ * لا، ليس صعباً الاشتغال سردياً على أمكنة أخرى بعيدة، حتى عندما كانت مصادر المعلومات، كالإنترنت ووسائل الاتصال الحالية شحيحة. لقد كتب كافكا عن أمريكا وهو لم يرها من قبل أو يزرها. وكانت روايته تلك من أفضل ما كتبه. لكن، تبقى المدن عشق الروائيين الأول. ربما هو حنين أوديسيوس إلى إيثاكا، أو الحنين الذي أشار إليه أبي تمام في بيت الشعر المنسوب له. هناك الكثير من المدن التي خلدها الكبار في رواياتهم، ففضلاً عن الجنوب الأمريكي الذي أُغرم به وليم فوكنر، هناك دبلن جيمس جويس، وبطرسبورغ دوستويفسكي، ونيويورك بول أوستر، وباريس بروست وموديانو، واسطنبول باموك، وقاهرة نجيب محفوظ، وبصرة محمد خضير. أنا نفسي جربت الكتابة عن أمكنة غير البصرة، وأكتب حالياً عن أمكنة بعيدة جداً لم أزرها، ولعل هذه هي أفضل نعم تكنولوجيا الاتصالات على الكاتب. تماماً مثل «هاملت» أعشق تلك الجميلة وأسخط عليها أما إذا كان هناك سر في علاقتي مع المدينة، فنعم يوجد، لكن أنا نفسي لا أعرفه. البصرة مدينة مهما كانت الحياة فيها صعبة، ومهما قيل بشأن أنها لا تصلح للسكن، تبقى تمتلك تلك الجاذبية التي من الصعب التخلص منها. قد نسخط على الأماكن التي أنجبتنا، كما سخط هاملت على الدنمارك، وكافكا على براغ، وجويس على ايرلندا، لكن في الوقت نفسه، تبقى تلك الأمكنة راسخة في ذواتنا، كأي عضو حيوي آخر نملكه، شئنا ذلك أم أبينا، مما ينعكس بصورة أو أخرى على كتاباتنا المأهولة بالأمكنة التي لا تريد أن تغادرنا. وإذا كانت تقارير الطاقة العالمية تقول أن آخر برميل بترول يخرج من البصرة، فالحكايات في هذه المدينة ستبقى إلى ما بعد هذا التاريخ لأمد طويل. ثمن الاحلام: * كتبت (لا تحشوا وسادتي بالريش.. أخشى على حلمي أن يطير) كم حلماً طار منك حتى اليوم يا ضياء؟ وماذا عن جناحيك أمازال فيها متسع من ريش كثير يأخذك إلى هناك؟ أضعت ضياء الحالم والعاشق والشاعر وما عدت «أنا» هناك * تشكل الأحلام عبئاً كبيراً على الحالم في حال أنه جلس تحت شجرة وفتح فمه بانتظار الريح أن تُسقط فيه ثمرة من تلك الشجرة. الأحلام تحتاج إلى عداء مسافات طويلة، إلى الكثير من الصبر والمطاولة والمثابرة. لا تحصى تلك الأحلام التي تطير منا وتتلاشى، وكثيرة هي الخسارات الناتجة عن ضياعها، لكن دائماً ما يكون ربحنا في جمال التجربة واكتساب الخبرة، وهذا لا يعني أن يفقد المرء الجدوى من كل ما يفعل، ويتخلى عن حلمه بداعي أنه لن يتحقق يوماً. وفي النهاية، ليس كل من له ريش صار بمقدوره الطيران، أما عني فما زلت أحاول. ستتضرر الأسنان والأظفار، لكن لا بأس إن كان هناك ما يستحق أن يكون مدعاة للتشبّث. التناحر والطائفية: * صدرت روايتك الأخيرة "أسد البصرة" وجاءت هذه الرواية مختلفة تحلق في فضاء واسع يحن إلى وطن لا تمزقه الانتماءات الطائفية والمذهبية والعداء للآخر.. هل تحاكي "أسد البصرة" أمانيك يا ضياء أم واقعك؟ وهل الطائفية هنا هي طائفية العراق أم طائفية العالم بأكمله التي باتت ترضخ تحت تلك المحنة؟ * أسد البصرة ليست رواية محاكاة لواقع بقدر ما هي تمثلات لهذا الواقع. لا تخلو الرواية من الأماني بعراق خال من التناحرات، رغم أن هناك الكثير من المراهنات التي تتحدث عن الأسوأ الذي لم يحدث حتى الآن. الطائفية كانت مشروعاً قديماً تم تجديده بصورة بشعة، لكن ليس هذا فحسب ما تتحدث عنه الرواية، إنما هناك ملامح ما قبل الطائفية، وهو عملية تجريد البلد من أهم مزاياه، التي طالما كنا نفخر بها، ونحن نتحدث عن التعايش السلمي بين القوميات والديانات والطوائف والجاليات التي كانت موجودة في العراق. ليس الخطأ هنا خطأ أبناء البلد، إنما هي رغبة الأنظمة في حصر المكونات في خانة ضيقة، وبالتالي لن يكون ثمة حل سوى الهجرة. أسد البصرة رواية محنة من المحن الكثيرة التي عايشها الفرد العراقي طوال العقود الماضية. محنة الوقوف في دوامة التجاذبات الدينية والعرقية. قصة اللجوء إلى الثقافي من أجل الكشف عن هامش حياة البطل الذي لا يشعر بالهزيمة إنما يريد الآخرون إلباسه تلك الهزيمة. الحالة الهيستيرية: * حينما توجد الحرب في وطن ما فإن هناك علاقة حميمة تربطنا بالموت في كل وقت.. وكأن مشاهد القتل والدمار تخدر فينا مشاعر هيبة الموت فنعيش في صحبة أبدية مع الانسحاب الذي قد يأتي في أي وقت.. هل عقدت صحبة يوما ما مع "الموت"؟ وماذا تفعل بك الجنائز بخلاف أنها تسير بك متأنقاً في مسيرة وداع؟ جاءنا الموت من آلاف الأميال على حاملات الطائرات * الحرب تمثل الحالة الهيستيرية التي يمر بها الموت، سواء كانت تلك الحرب طائفية أم من نوع آخر. لا أدعي عدم اكتراثي بالشكليات إذا ما تعلق الأمر بعلاقة العراق مع الحروب، وما فعلته به. لا يمكن أن تمر الحرب من دون أن تخلف الدمار، ولا يمكن للدمار أن يمر هو الآخر من دون أن يترك في إثره غصة وحسرة ودمعة على الأرض والإنسان. علاقتنا بالموت صارت يومية، وعلى الرغم من ذلك، لا أجد نفسي مستعداً لرؤية أشلاء الضحايا، فهكذا مشاهد هي موت آخر، ورغم ذلك ليس بالضرورة أن ترى فعل الموت بعينك، فالإحساس به وهو يتجول في الجوار موجود طيلة الوقت في بلد مثل العراق. وليس من الضروري أيضاً أن تحدث الحرب على الحدود الفاصلة بين جارين دائماً، فأكثر الحروب جاءتنا على حاملات الطائرات، من أماكن تفصل بيننا وبينها آلاف الأميال. ذهب الجميع: * كم "ضياء" بداخلك؟ وما الضياء الذي ذهب ولم يعد حتى اليوم؟ ضياء الحالم بكرة القدم، وآخر حالم بالسينما، بالحب، بالسفر والتجوال في أماكن كان يقرؤها في الروايات. بالشعر، والتمثيل، والرواية. كل هؤلاء ذهبوا وتلاشوا، ولم يعد منهم أحد حتى الآن، ما عدا ضياء الروائي! أسئلة النفس: * أيهما أكثر تأثيراً عليك في الحياة "الأسئلة" أم الأجوبة؟ * دائماً ما تكون الأجوبة هي الصعبة، خصوصاً في ظل الكم الهائل من الأسئلة الغامضة والشائكة والمعقدة التي يلقيها إلينا العالم كل يوم. أحياناً الأجوبة تجعلنا غريبي الأطوار إزاء من يسألوننا، لأننا لا نجيب عما هو جاهز وخال من الجمال في أسئلتهم. دائماً ما أجد أجوبة عن الأسئلة التي أتلقاها، في حين أجد صعوبة كبيرة في الإجابة عما أطرحه على نفسي. لا أحب الأجوبة ذات المنحى الفلسفي، لأني في الوقت نفسه لا أريد لجوابي أن يكون غامضاً ومستعصياً وينم عن تثاقف. لست مؤرخاً لكي أجيب عن اسئلة من قبيل: متى حدث ذلك؟ بدلاً من: كيف حدث ذلك؟ لقد كتب بابلو نيرودا يوماً في كتاب التساؤلات: هل يوجد هناك أسوء من أن تُدعى بابلو نيرودا؟ ولا أظن أن شاعراً مثل نيرودا طرح مثل هذا السؤال جزافاً، أو لا لأجل شيء سوى التفكه أو من قبيل شعوره العدمي أو ملء فراغ ما زال في الورقة. كما لا أظن أنه أجاب عن سؤاله هذا، فمثل هذه الأسئلة لا تعبر عن جلد ذواتنا، بقدر ما توصلنا إلى الحقائق التي قد لا نكتشفها إلا ونحن في حالة من اليأس والإحباط الذي يخلفه العالم فينا. سؤال بلا إجابة: * برأيك ما السؤال الذي تأخر كثيراً ولم تجد له إجابة حتى الآن؟ * أعتقد هو: لماذا نكتب؟ حقيقة المغفل: * كتبت (لم يقتلني أحد.. أنا الذي أغرقت نفسي ككل المغفلين.. أردت من النهر أن يعلمني.. كيف أحب بعمق).. هل يجب أن نكون "مغفلين" حتى نعيش قمة العشق؟ كم مغفل برأيك علم بغفلته وفضل أن يبقى "مغفلاً" على أن يبصر ويعيش بلا حب؟ * أن نكون مغفلين، يعني ألّا نبالي بما يجري من حولنا، وربما يحدث ذلك عمداً أو من غير عمد. لكن، ليس هذا هو المعنى المراد من تلك العبارة، إنما هناك كمية كبيرة من الشعور اللاجدوى من موضوعات كبيرة مثل الحب، حين يسيطر المستحيل واللاممكن في كثير من الحالات. مغفل كلمة لا تدل على الغباء، إذا ما ارتبط الأمر بحالة نحتاج أن نعيشها بمعزل عن إلقاء اللائمة على الطرف الآخر، من دون الحاجة إلى قول: هذا الأمر لا يعنيني. الأحرى، إننا نبرئ الآخرين مما أوقعنا فيه أنفسنا. الأنا المختلفة: * حينما تدخل العزلة.. هل تلتقي بضياء؟ أم أنك تفضل أن تنسحب منه إلى آخر يشبهه؟ * عادة ما أنكر شخصي في الواقع حين أكتب. هناك شخص آخر يتجهم وجهه ويهز رأسه أسفاً، وأحياناً يصفق قائلاً: هذا جيد.. برافو! ليس هناك ما يُشاع عن وجود شيطان أو ملاك أثناء الكتابة، لكن هناك شيء يصعب تفسيره حتى من قبل الكاتب نفسه. أحياناً أشك بأن أغلب الكُتّاب يعانون من فصام في الشخصية، ولا يحدث ذلك إلا في العزلة، بين الأوراق والأقلام والكتب والقصاصات. لا أحفل بالطقوس، فالكتابة عمل عسير يحتاج إلى الراحة بعيداً عن الكتابة، أكثر من احتياجها إلى طقوس، يحتاج إلى صديق يمكن الوثوق لا بذائقته فحسب، إنما بالكاتب غير المرئي في داخله. نعم قد يشعر المرء أنه لم يعد هو بمجرد دخوله في فضاء الكتابة، وبالنسبة لي لا دخل لقوى خفية بما أكتبه كما يزعم البعض. دائما ما أضع نفسي مكان إحدى الشخصيات، لكني لا أعود لكي أسأل من تلك ال"أنا" التي تكتب. لا يوجد أشباه، بل يوجد "أنات" مختلفة، لهذا يستغرب بعض الكتّاب مما كتبوه سابقاً، حتى أن أحدهم يقول: أنا لم أكتب هذا! المهمة الصعبة: * ما هو الفرح الصغير؟ وهل جربت يوماً أن تجمع أفراحك بين يديك ثم رميتها عالياً حتى تضيء قلوب من حولك؟ * دائماً ما أفعل ذلك. أحفل بالصداقة كثيراً، رغم أن أصدقائي قلائل. الفرح مادة هذا العالم لكي يكون على نحو أفضل، لكن أن تُلقى مهمة صناعة شيء اسمه الفرح على عاتق شخص ملامح الفرح نفسه من حوله تكاد أن تكون معدومة، فأعتقد تلك مهمة عسيرة. السيناريو: * لماذا تختار الكتابة قدراً لك؟ وما هو نوع "الكتابة" الذي لن تكتبه يوماً؟ * قلت لك مسبقاً، أكثر الأسئلة التي لا يمكن أن يملك الإنسان لها جواباً، هو لماذا نكتب؟ السؤال يبدو سهلاً جداً، لكنه عادة ما يدخل في الفلسفة، ويتفرع إلى ما لا نهاية، لهذا أتركه جانباً، ولا أفكر فيه. لو كانت الكتابة نوعاً من الطعام، أو أي عمل آخر نقوم به، لكانت الإجابة سهلة. وربما هي كذلك في حال سألنا أحد لماذا نكتب؟ لكن تظل الإجابة على طرف اللسان، كأي اسم هممنا أن ننطق به، ونسيناه فجأة، وليس ثمة من يذكرنا به. أما نوع "الكتابة" الذي لن أكتبه يوماً "السيناريو" رغم رغبتي الشديدة بكتابته، وقدرتي على ذلك، لكن لا أظنني أفعل ذلك يوماً. الغياب: * أمامك باب يفصلك عن أحد ما.. من الشخص الذي ترغب أن يكون واقفاً خلفه ينتظرك؟ * لا أحد! في لحظات الكتابة في إحدى الفعاليات في رحلة سفر