التطعيمات واضطراب التوحد.. قصةٌ قديمة متجددة، لا تكاد تختفي حتى تطل برأسها من جديد، مثيرةً الكثير من القلق والبلبلة بين الآباء، ليتساءل البعض منهم في خوف عن صدق هذه العلاقة، بينما يقرر البعض الآخر التوقف عن إعطاء التطعيمات لأطفاله حمايةً لهم فيما يظن، بل إن منهم من يتبنى نظرية المؤامرة بين المنظمات الصحية وشركات التطعيمات لنشر التطعيمات بقصد الكسب المادي. ولكن ما حقيقة هذه العلاقة التي لا تفتأ المنظمات الصحية في أنحاء العالم في نفيها وتفنيدها، ولعل آخرها بيان وزارة الصحة السعودية والمنشور في بداية هذا الشهر.. لنعرف أكثر دعونا نتعرف على بداية هذه القصة المثيرة للجدل.. بدأت القصة في عام 1998 م عندما نشر د. أندرو وكفيلد البريطاني بحثاً في مجلة اللانست الشهيرة ربط فيه حدوث اضطراب التوحد بتطعيم الفيروس الثلاثي (MMR)، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد، وقامت المنظمات المناهضة للتطعيمات برفع القضايا على شركات انتاج التطعيمات، وعزف الأهالي عن إعطاء التطعيمات الأساسية لأطفالهم، ولم تمض عدة سنوات حتى بدأت بعض الأمراض المُعدية التي كانت تغطيها التطعيمات بالظهور من جديد في شكل أوبئة مصغرة في أوروبا وأميركا. حاولت المراكز الطبية -بعد ذلك - إعادة دراسة د. وكيفيلد ولكنهم لم يصلوا لنفس النتيجة، وهنا بدأت تتضح بعض الحقائق الجديدة، فقد تم اكتشاف تلاعب د. وكيفيلد بمنهجية عمل الدراسة، وأخذه أموالاً من المنظمات المناهضة للتطعيمات للقيام بها، وهو أمر منافٍ لأخلاقيات البحث العلمي، ونتيجة لذلك فقد تم سحب دراسته من مجلة اللانست في 2010م، ثم تم منعه من ممارسة الطب في بريطانيا. ورغم انتهاء القصة من جانبها العلمي، إلا أنها ما زالت تطل برأسها بين الفينة والأخرى، خاصةً في وسائل الإعلام الجديد والتي – للأسف- ما فتأت تذكر جزءاً من القصة، وتهمل الباقي. قد يبدو قرار رفض التطعيم من قِبَل الأهل قراراً شخصياً محضاً، ولكنه في الحقيقة قرارٌ ينعكس على المجتمع بأسره، ولتوضيح هذه النقطة دعونا نتخيل السيناريو التالي: يقوم مجموعة كبيرة من الأهل برفض تطعيم أطفالهم، سيؤدي هذا الأمر مع مرور الزمن إلى وجود عددٍ كبير من الأطفال ممن لم تتكّون لديهم مناعة ضد بعض الأمراض المُعدية التي تغطيها التطعيمات، هذا بدوره سيؤدي إلى نقصان ما يُسمى ب"المناعة الجماعية" وهي مظلة يوفرها المجتمع لنفسه عندما يتمتع نسبة معينة من أفراده بمناعة كافية تحميهم من حصول وباء جماعي، ومن خلال هذه المناعة الجماعية يتم الحد من انتشار الوباء في المجتمع، حيث يمثل الأشخاص المُحصّنون حائط الصد ضد انتشار المرض، ومع ازدياد مظلة المناعة الجماعية يستطيع المجتمع استئصال المرض المعدي تماماً، كما حصل لمرض الجدري عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية استئصاله من الأرض عام 1977م، وسيكون الهدف القادم هو استئصال شلل الأطفال بإذن الله بحلول عام 2018م. إن كسر هذه المظلة نتيجة وجود عدد كبير من أفراد المجتمع من غير المحّصنين، قد ينذر بحصول وباء سريع لهذه الأمراض، خاصة في الأطراف الأضعف في المجتمع مثل الأطفال الرُضّع وكبار السن والأشخاص المصابين بأمراض نقص المناعة، فتخيل هذا الأمر يحصل في مدرسة طفلك، لينتقل المرض بعد ذلك لأفراد العائلة، ثم الحي.. ويمكنك تخيل اتساع الرقعة بعد ذلك!! ولعلي في نهاية هذا المقال استثير عقولكم للتفكير في إجابات الأسئلة التالية: هل يحق للنظام الصحي إجبار الأهل على تطعيم أطفالهم؟، وإذا كان رفض التطعيمات الأساسية هو حقٌ مشروعٌ للأهل، ماذا عن حق الطفل في الحصول على الحماية والتحصين ضد الأمراض المُعدية؟، وأخيراً هل حريتي الفردية بعدم تطعيم طفلي تتعارض مع حق المجتمع في الحصول على مناعة جماعية تحميه من تفشي الأمراض المعدية فيه؟. نحن نقدر إحساس الأهالي نحو أطفالهم وخوفهم عليهم، ولكن العاطفة وحدها لا تكفي، بل لابد دائماً من الاستنارة برأي العلم. *استاذ طب الأطفال المشارك كلية الطب، جامعة الملك سعود