تناثرت قطرات المطر بهدوء ورقة، في الوقت الذي كانت الشمس ترسل أولى تباشيرها بحياء وخجل. فالغمامات السابحة في الفضاء كانت تحاول جاهدة حجب ذلك النور وترك اللون الرمادي مسيطراً. رائحة المطر كانت تعبق في الأجواء، والصباح كان يتسلل ببطء وبصمته المعهود. وفجأة علت دقات ساعة «بيغ بن». تلك الساعة التي لم يتعبها الزمن من عزف سيمفونية الوقت منذ أكثر من 150 عاماً. فأنا الآن في لندن لأحاول استكشافها من جديد! اليوم الأول ها أنا أسير بمحاذاة نهر التايمز، ثم أعبر جسر «وستمنستر». وهناك وقفت وتأملت النهر وهو يتهادى بكل خفة ودلال، ليستكمل رحلته إلى بحر الشمال. وفي تلك اللحظة استحضرت قصيدة «على جسر وستمنستر» للشاعر الإنكليزي «ويليام وردزورث» William Wordsworth يقول مطلعها: «لم أرَ في حياتي أبداً، ولم أشعر أبداً، بصمت عميق كهذا. فالنهر ينساب على طريقته الخاصة، والبيوت المترامية على جانبيه تبدو في سبات عميق. وذلك القلب المفعم بالحب هو نائم أيضاً». كلمات شاعرية بامتياز جعلتني أهوم في سحر ذلك المكان، وما يحيط به من مآثر عمرانية مهيبة. توقفت أمام مبنى البرلمان البريطاني، فشدتني هندسته الجميلة العالقة على جدرانه والتي تحمل بصمات المهندس المعماري الإنكليزي «تشارلز باري» Charles Barry. ففي العصور الوسطى، احتضن الموقع حيث يربض البرلمان، مقر لجباية الضرائب، ومجموعة من البيوت الملكية، وكنيسة. وأخذتني إحدى الأساطير التي سمعتها أثناء دراستي في لندن، إلى الفترة التي سبقت العصور الوسطى، والتي تحكي عن وجود معبد ل «أبولو» في ذلك المكان... إلا أنه تهدم كلياً نتيجة لهزة أرضية. وبين حكايات الماضي القديمة وأساطيره الشعبية، يشمخ مبنى البرلمان البريطاني على الضفة الشمالية من نهر التايمز، ليستعرض هندسته الراقية التي تمنحك الشعور وكأنك أمام قصر من قصور ألف ليلة وليلة. ليست ملامح العظمة في الهندسة والمساحات الرحبة التي تجمع 1200 غرفة و100 درج وأكثر من 3 كليومترات من الممرات والعديد من القاعات التاريخية من صفات البرلمان الرئيسية فقط. بل هناك ما هو أشمل من ذلك. إنه النفوذ السياسي. فالبرلمان هو أعلى سلطة في المملكة المتحدة، ويوكل إليه الحكم البرلماني الذي ترأسه اليوم الملكة اليزابيث الثانية. وهو أيضاً «أم البرلمانات» لأنه أقدم مؤسسة دستورية مستمرة في العالم. أكثر من 900 عام ترخي بثقلها على هذا المبنى العريق، وأكثر من اسم عرف به. أبرزها، بيوت البرلمان، وقصر «وستمنستر»، لأنه كان مكان إقامة ملوك بريطانيا لغاية عام 1512، إذ تخلى عنه الملك هنري الثامن بسبب الحريق الذي طاوله لينتقل إلى قصر «وايت هول». ومنذ ذلك التاريخ، أصبح المقر الدائم للبرلمان. دقات ساعة «بيغ بن» المدوية في الأفق جعلتني أتأملها من جديد، وأحدق بتصميمها الفريد، وببرجها التي تزينه الهندسة القوطية والشامخ عند الطرف الشمالي الشرقي من مبنى البرلمان. الجميل في الساعة عقاربها الضخمة التي يصل طولها إلى أربعة أمتار، ويبلغ وزن كل منها 300 كيلوغرام. أما وزن جرسها فيصل إلى 13 طناً. قد لا يعلم كثيرون أن تسمية «بيغ بن» هي تخليد لذكرى وزير الأشغال البريطاني Benjamin Hall الذي كان له الفضل في إعادة بناء مبنى البرلمان، وإنشاء برج الساعة. مع كل ضربة من ضربات «بيغ بن» كنت أشعر وكأنها تناديني لزيارتها. والواقع أنني لم أمر قربها مرور الكرام، بل صعدت إلى برجها، بعد تسلق 334 درجة. وهناك سمعت قصة طريفة كانت تقصها المرشدة السياحية على بعض السياح الأجانب، وتقول: «على رغم عمر الساعة الطويل ف «بيغ بن» لا تزال تعمل بطريقة جيدة، ومعظم الحوادث التي تعرضت لها كانت بسيطة. ومن الطريف أنه في أحد الأيام قرر طير الزرازير زيارة الساعة، فوقف على عقرب الدقائق، ومنعها من التحرك، وتأخرت الساعة، وبقيت صامتة». وأترك «بيغ بن» على إيقاع ضرباتها الرنانة التي تطلقها بخجل كل 15 دقيقة، متوجهاً إلى «عين لندن»London Eye لمشاهدة المدينة من فوق. الحماسة كانت بارزة على وجوه الجميع لصعود هذا الدولاب الذي أعتبر أكبر دولاب متحرك في العالم، عندما شيد عام 1999 لاستقبال الألفية الجديدة. وانطلق الدولاب برحلته الدائرية ببطء شديد، في الوقت الذي كنت في إحدى علبه الزجاجية التي تتسع لحوالى 25 شخصاً، أراقب تلك المناظر والمعالم التي كانت تنبسط أمام ناظري. فخلال رحلتي التي استمرت 30 دقيقة، شاهدت كاتدرائية «سانت بول»Saint Paul Cathedral التي تزينها أكبر قبة في العالم، والتي هي مقعد أسقف لندن. ولهذه الكاتدرائية مكانة خاصة في قلوب البريطانيين. فكونها شيدت في القرن السابع عشر، شهدت سلسلة من المناسبات التي تراوحت بين حفلات الأعراس الملكية إلى إقامة الجنازات الرسمية. فهي المكان الذي شهد الزواج الأسطوري للأميرة الراحلة ديانا والأمير تشارلز في 29 تموز (يوليو) 1981. كما شاهدت من «عين لندن» التي تنقل حوالى 15 ألف راكب يومياً منطقة «كناري وورف» Canary Wharf التي يعمل فيها حوالى 90 ألف شخص في أكبر المصارف وشركات التأمين. وكذلك انبسطت أمامي محطة «تشيرينغ كروس» Charring Cross للقطارات التي تربط وسط المدينة بضواحيها والمناطق البعيدة. ولا تبخل «العين» بإلقاء الضوء على قصر «باكنغهام» Buckingham Palace مكان إقامة ملكة بريطانيا الحالية، والذي يحافظ على تقليد تغيير الحرس الملكي في الحادية عشرة صباحاً. لندن من فوق أحلى. ومن تلك العلبة الزجاجية يمكنكم الوقوف أمام روعة تلك المباني العريقة التي تصطف بمعظمها على ضفة النهر الشمالية. وإذا حالفكم الحظ وكان الطقس مشمساً، ستنعمون بمشاهدة قلعة «ويندسور» Windsor Castle أكبر قلعة مأهولة في العالم، وفيها تمضي الملكة عطلة نهاية الأسبوع. اليوم الثاني برودة الطقس لم تقف عائقاً في اليوم الثاني للتعرف إلى وجه لندن المائي. المركب الراسي على مقربة من «عين لندن» كان ينتظرني ليبحر بي مع غيري من السياح في عباب نهر التايمز. وبدأ المركب يتهادى بكل خفة، وأخذت لندن تطالعنا بعظمة مبانيها الراقدة على ضفتي النهر. 40 دقيقة كانت كافية لتجعلني أتأمل من جديد تلك المباني العتيقة التي لم تؤثر السنوات على بهائها ورونقها. على الضفة الشمالية استقبلتنا قلعة لندن المعروفة باسم «برج لندن» Tower of London. فرحبت بالجميع وعرضت تاريخها الذي يرجع إلى عام 1066. وأخبرتنا المرشدة السياحية التي كانت على متن المركب أن القلعة شيدت لحماية المدينة من الغزوات الخارجية. وبحلول عام 1100 استخدمت كسجن للعديد من الشخصيات البريطانية، أبرزهم اليزابيث الأولى قبل أن تصبح ملكة. وكانت عبارة «أرسل إلى البرج» ترمز إلى أن الشخص سوف يتعرض للتعذيب والموت. وعلمنا أن القلعة تعرضت للحصار عدة مرات، وكانت السيطرة عليها أولى الخطوات للسيطرة على البلاد. ومن ثم استخدمت لسنوات طويلة كمستودع لحفظ الأموال والأسلحة والحيوانات، وكدار لصك العملة وحفظ السجلات العامة والكنوز الملكية. وكانت تبدأ منها مواكب تتويج الملوك باتجاه دير «وستمنستر». وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، استخدمت كسجن، وأعدم فيها 12 رجلاً بتهمة التجسس. وبعد الحرب، أعيد ترميم الأضرار التي سببتها الغارات، لتصبح اليوم من أهم معالم الجذب السياحي في لندن. كما أضيفت عام 1988 على قائمة مواقع التراث العالمي. واستمرت الرحلة النهرية ووصلنا إلى «جسر لندن» Tower Bridge الذي هو أحد الجسور الخمسة عشر الممتدة فوق نهر التايمز. وأرجعتنا المرشدة السياحية إلى تاريخ افتتاح الجسر عام 1973، ليحل مكان الجسر القديم الذي شيد بين عامي 1823 و 1831. بعد العودة إلى أرض لندن الصلبة، توجهت إلى قلبها النابض إلى ساحة البيكاديللي Piccadilly Circus التي تحاكي الفرح والسعادة على مدار الساعة. يقال في إيطاليا أن كل الطرقات تؤدي إلى روما. أما في لندن فكل الطرقات تؤدي إلى ساحة البيكاديللي. فما من سائح يقصد العاصمة البريطانية، إلا وتجذبه هذه الساحة التي شيدت عام 1819 لربط شارع «ريجنت ستريت» بأسواق ومحلات البيكاديللي الشهيرة. وحافظت الساحة على مر السنين على مكانتها المرموقة في عالم الترفيه والتسلية، وتضم اليوم سلسلة من المتاجر العالمية وصالات السينما والمسارح والمطاعم التي تستقبل روادها حتى ساعات الصباح الأولى. تتوسط الساحة نافورة للمياه، وتمثال لورد شافتسبيري Shaftesbury السياسي البريطاني الذي عرف بمساعدته للأطفال الفقراء في بريطانيا، وأسس لهم عدداً كبيراً من المدارس خلال حكم الملكة فيكتوريا. إذا أحببتم الحصول على صورة بالأبيض والأسود لوجوهكم، فما عليكم سوى تسليم أنفسكم لأحد الرسامين الذين يصطفون على أطراف الساحة لإهدائكم خلال بضع دقائق صورة طبق الأصل لوجهكم مقابل مبلغ زهيد. هذا ما قمت به قبل أن أنهي جولتي في البيكاديللي، وأتوجه إلى «مسرح الملكة» لحضور «البؤساء « Les Misérables. أكثر من 25 عاماً مرت على عرض تلك المسرحية الموسيقية المأخوذة عن رواية بالاسم نفسه للأديب الفرنسي فيكتور هيغو، إلا أن شعبيتها لا تزال تزداد عاماً بعد عام. اليوم الثالث بعد أن استمتعت بلندن من الجو أثناء رحلتي في دولابها الشهير، ومن على صفحة مياه نهر التايمز في رحلة مائية، حان الوقت للتجول في شوارعها العتيقة لتلمس سحر الماضي النابض في كل مكان. وصلت «قناطر بيرلنغتون» Burlington Arcade التي شيدت عام 1819 لبيع المجوهرات والقطع الثمينة النادرة. الشيء المثير للاهتمام في ذلك المجمع التجاري الصغير هو محافظته على حراس بالزي التقليدي الذي يرجع إلى عهد الملكة فكتوريا والملك أدوارد السابع. مهمة أولئك الحراس: مراقبة رواد القناطر، ومنعهم من حمل أشياء كبيرة الحجم أثناء التجول هناك، وعدم فتح المظلات في الداخل، وعدم الصراخ أو الحديث بصوت عال... وبالإمكان تطبيق المثل الفرنسي الذي يقول: «كوني جميلة وأسكتي» أثناء زيارة «قناطر بيرلنغتون». وإذا كان حبس الأنفاس مطلوباً في تلك القناطر، فإن الأنظمة تختلف تماماً في ساحة «الطرف الأغر» Trafalgar Square، أكبر نقطة تجمع في لندن لإقامة الاحتفالات. وهي مركز للتظاهرات والاعتصامات والخطابات السياسية. وأعطى الإنكليز الساحة هذا الاسم نسبة إلى الانتصار الكبير في معركة «الطرف الأغر» البحرية، والتي دَمّر فيها الأسطول البريطاني أسطولي فرنسا وإسبانيا عام 1805. والساحة وفية لقائد المعركة الأدميرال «هوراشيو نيلسون» Horatio Nelson، وقد خلدت ذكراه بتشييد «عمود نيلسون» الذي يعلوه تمثال ضخم للقائد البريطاني الذي توفي في اللحظات الأخيرة من انتصاره التاريخي. لم أرغب في إنهاء يومي الثالث في لندن من دون زيارة «تايت بريطانيا» Tate Britain التي استوقفتني عند مدخلها خريطة تشير إلى أنك أمام مجموعة ضخمة من الصالات لعرض التماثيل والرسوم والجداريات والأعمال المميزة لفنانين بارعين في بريطانيا. ثم انتقلت بعدها إلى متحف الشمع «مدام تيسو» Madame Tussauds حيث كنت وجهاً لوجه أمام شخصيات عالمية بارزة طبعت اسمها في هذا العالم الفسيح، سواء في الفن أو الرياضة أو السياسة. لا يمكن أن نختبر لندن ونكشف الستار عن كل ما فيها في يوم أو يومين أو ثلاثة. فقلبها يختزن الكثير، وهي تجمع كل مدن الأرض، وكل ثقافات العالم في هذا المكان الذي ينتمي إلى كل عصر وزمان. وعندما شارف نهاري السياحي الثالث على الانتهاء، وكنت في طريقي إلى المنزل، تذكرت مقالة للكاتب والشاعر البريطاني الشهير صامويل جونسون Samuel Johnson تقول: «إذا ضجرت من لندن يعني أنك ضجرت من الحياة».