إن شبابنا لا يعرض نفسه للبيع ولا يخون، وإنما يتم تسريب هذا الزيف إلى عمقه النفسي دون وعي فيعمل باقتناع زائف بطبيعة الحال! ونحن من قصر في حقه بداية من الأم مرورا بكل شيء ثم نصيح ونقول أين المفر؟.. العيون الواسعة تعد من علامات الجمال والتي تميَّز بها العرب فاعتبروها من مقاييس الجمال! ولكن ما يثير انتباهي هو: هل للعيون الواسعة علاقة بسعة الأفق المعرفي؟! بطبيعة الحال كانت الإجابة بالنفي وإلا لما كان الصينيون واليابانيون وبلاد شرق آسيا أكثر تقدما في علوم المعرفة والارتقاء بالذات وأيضا بأوطانهم؛ فهل ما يحدث في أوطاننا بالرغم من اتساع أعيننا أزمة معرفة أم أزمة انتفاخ الذات وأزمة المقاومة؟! أعتقد أن من أطلق اسم الياسمين على ذلك الحي الراقي بمدينة الرياض لم يكن يعلم أنه ستتناثر به دماء برائحة الياسمين والتي هزت قلوبنا وعقولنا مع كل طلق رصاص إلى جباه رجال قدموا أرواحهم فداء وتضحية طلبا للمجد الخالد في الدارين. ولكن هل يفتح أصحاب العيون الضيقة عقولهم ويتنازلون عن الاستماتة في الدفاع عن أوهام دسها أنجاس خلق الله في عقولهم؟ لا سبيل للإقناع ولا سبيل للنقاش في ظل ظاهرة انتشرت بين أطياف المجتمع من قفل الوعي قبل العين وقفل الفكر قبل النقاش وقفل الأفق قبل الرؤية، فالمسألة ليست مبارات فكرية يُهزم فيها من اقتنع! إن أزمة القناعة والاقتناع ناتجة عن ذلك الإرث القبلي في المساجلات الشعرية فالأبلغ هو المنتصر وترفع شارته وغيره والمنسحب يذهب يجر أذيال الخيبة؛ بينما المسألة أبسط من هذا بكثير وهي أن هناك حجة ساقها الآخر فكانت مقنعة فقط لا غير. ومن هنا بلينا بالتمسك بالرأي وبالتشدد له حتى وصل الأمر إلى هذا الدم المنسكب بدون توقف! إنها أزمة المقاومة التشبث بأفكار ضيقة غير معرفية جعلت الفرق بين الأجيال مجرد هاجس يقلق الكثير منا، ولم يعد ذلك التعالي بين الفريقين أمرا بعيدا، بل أصبح واقعا سوف يدمر ثقافتنا وحسنا الوطني والمجتمع، الذي لا يضاهيه حس. فهل نعلم كيف تدار العقول وكيف يتم إعداد البرامج النظرية إما لتزييف الوعي -وتغييبه بحسب ما نظر له علماء الفلاسفة الغربيين للسيطرة إبان القرن التاسع عشر للسيطرة إما للغيب أو لليقظة! وعلينا الأخذ بتلابيب آليات إيقاظ الوعي والتي يقع العبء الأكبر على أعناق مثقفينا ودعاتنا ونسائنا وإعلامنا، للنهوض بالخطاب العام دون السعي خلف (أكلشيهات) بائدة! فآليات تزييف الوعي والذي سيطر به الفكر المدسوس على عقول البشر هي:- 1- تحويل القيمة إلى ثمن 3- تحويل الإرادي إلى قدري 2- تحويل التاريخي إلى طبيعي وقد نبه هؤلاء الفلاسفة أن مواطن تنفيذ هذه الآليات أو دحضها يكون عبر وسائل صناعة الوعي (الأم، المدرسة، رجل الدين، الوسيلة الإعلامية أو أي شخصية كارزمية والمثقفين الحقيقيين). هكذا يكون إسقاط الدول عبر تفشي هذه الآليات الثلاث بين فئاتها بتزييف الوعي. فتحويل القيمة إلى ثمن هو بيع القيم مما تجعل الفرد يتخلى عن قيمه مقابل حفنة من المال لبيعها في سوق النخاسة كالتآمر على الوطن أو التفريط في شرف الكلمة والموقف وغير ذلك من القيم في سبيل المال فتتحول كل القيم إلى سلع وهو ما يسمى بتسليع الإنسان وتشييئه هذا هو المعول الأول. الأمر الثاني هو تحويل الإرادي إلى قدري؛ وهو يرتكز على الارتكان في كل شيء إلى القدرية بالرغم من الله سبحانه وتعالى قد أعطانا مساحة كبيرة من الاختيار! إن هذه الفلسفة والتي جعلوا تسريبها عبر الأم والمدرسة ووسائل الإعلام والشخصيات الكارزمية مضت لتستأصل قوة الإرادة الإنسانية وتحرمها من حقها في الاختيار! أما الثالث منها فهو جعل كل ما هو تأريخي إلى أمر طبيعي، فتبدأ بفطرية الأمومة ومجانية التعليم حتى تنتهي باحتقار التاريخ وتهميشه وعدم الدفاع عنه ولذلك نجد أن محو الهوية أصبح مطلبا عولميا! وبالرغم من عدم اعتناق أي فلسفات غربية في ظاهر الأمر، إلا أننا نرى أنها قد تسربت في عمق الوجدان العربي وهو ما جعل هذا الإرهاب يستفحل والبلدان تخرب من دواخلها عبر بيع القيم والاتكال والتكاسل وتهميش التاريخ وعدم تقوية أوتاده والاعتزار به، إنها تتسرب كما الماء والهواء وإلا لما كانت هذه الحوادث وهذا الفساد والحروب عبر ما يسمى بتزييف الوعي! (إن الأم هي المنفذ الأول ثم المدرسة والتعليم ثم رجال الدين وأصحاب النفوذ الكارزمي والإعلام) هم من يصنعون الوعي ويعملون على إيقاظه وهم حائط الصد الأول لهذا التزييف ولهذا التغييب فهل نعيد النظر في الخطاب العام عبر هذه الدوائر وهل ننهض بالوعي العام الذي أضحى فريسة لهذا التسرب الوجداني دونما علم لكيفية إدارته. إن شبابنا لا يعرض نفسه للبيع ولا يخون، وإنما يتم تسريب هذا الزيف إلى عمقه النفسي دون وعي فيعمل باقتناع زائف بطبيعة الحال! ونحن من قصر في حقه بداية من الأم مرورا بكل شيء ثم نصيح ونقول أين المفر؟ أين التعليم وأين ركائز المعرفة وأين بناء الشخصية، أين الاهتمام بالمرأة التي هي المعبر الأول والتي لا تزال في نظر الكثيرين عورة وحاملة حزام العفة وما إلى ذلك، أين دور الدعاة المستنيرين لما يحدث وأين علماء الثقافة وبدون تثاقف وتكَّسب؟ كلها أسئلة جعلت التشدد والتزمت والإرهاب والرشوة والفساد والتكاسل أمرا طبيعيا يهوي بالوطن العربي كله وبدون استثناء، إنه تزييف الوعي والانتفاخ ضد أي رأي يحمل وعيا، فلم يعد للكلمة منشط ولم يعد للعالِم مكانة ولم يعد للأم دور في ظل كسر الكاريزما وهدم التاريخ واحتقار المرأة بوابة التاريخ.