العلاقة الإشكالية بين الأفكار والذاكرة تفتح لنا، ونحن نعيش هذا العصر الإشكالي في علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالعالمين من حولنا، باباً إلى تغيير ما نحن عليه، وتُظهر لنا أن تغيير ما نحن فيه لا سبيل إليه إلا أن نُغيّر من أفكارنا، ويكون شعارنا في هذه الحقبة: غيّرْ أفكارك؛ إن أحببتَ تغيير ذاكرتك، أو طمعت في تجديد محتوياتها هناك علاقة ظاهرة بين التفكير والذاكرة؛ فالإنسان، وكذا الأمة والطائفة، لا يستطيع التفكير خارج ذاكرته، ولا يملك البعد عنها في خواطره، فهي مخزن للعقل، تُمدّه بما فيها، وتساعده بما جمعته، وطالما أوقع خفاء مخزون واستتاره المرء في رأي خاطئ، وقول غير متين، فيجد من الناس مَنْ يُذكّره به، ويُرشده من جديد إليه، فينقلب رأيه، ويختلف موقفه، ويعود أدراجه، ولو كان ما غاب في تلافيف ذاكرته حاضرا حين تفكيره؛ لما وقع في الخطأ، وعثرت به الرجل. وهناك علاقة بادية بين الذاكرة والأفكار؛ فالإنسان، ومثله الأمة والجماعة، ليس بوسعه أن يتذكّر أمورا بعيدة عن مألوفه من الأفكار، وما في طاقته أن يستحضر مِن ذاكرته ما يصطدم بأفكاره الراهنة المعهودة، وهذا ما يمنح لأفكاره المألوفة البقاء، ويكتب لها الاستمرار، فيصبح ما يتذكره، وينزعه من ذاكرته، عونا له على نصرة آرائه المعهودة، ودليلا له على صوابها، فتدخل ذاكرته وأفكاره في حِلْف لا تنفصم عُراه إلا إذا هُيّئ له أن يقتنع بأفكار جديدة، تستثير ذاكرته، وترفع الغطاء عمّا فيها، فيبدو له حينها ما كان مستغربا مستهجنا عين العقل ورأي البصير. هذه العلاقة الإشكالية بين الأفكار والذاكرة تفتح لنا، ونحن نعيش هذا العصر الإشكالي في علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالعالمين من حولنا، باباً إلى تغيير ما نحن عليه، وتُظهر لنا أن تغيير ما نحن فيه لا سبيل إليه إلا أن نُغيّر من أفكارنا، ويكون شعارنا في هذه الحقبة: غيّرْ أفكارك؛ إن أحببتَ تغيير ذاكرتك، أو طمعت في تجديد محتوياتها. نحرص في ثقافتنا على دراسة الذاكرة الفردية، وما تتسم به من عيوب، وما يخالطها من أخطاء، ونغفل عن الذاكرة الأممية والدينية والمذهبية، فترانا نلوم الناس أنْ كانوا يتذكرون أخطاء غيرهم، ويُعددونها عليهم، ونُقدّم نصائحنا للأزواج والزوجات، وندفع إليهم بها، وننتظر منهم أن يأخذوها، ويعملوا بما فيها، وننسى أن نُجرّب تلك النصائح في علاج الذاكرة الأممية والدينية والمذهبية ودوائها، ويغيب عنا أن العلاج لهذه وتلك واحد، فلا ترانا نُذكّر بعضنا أن الأمم كلها كأمتنا، فيها خير وشر، وبر وظلم، وأن المنتمين إليها مثلنا يُحبون أن يسمعوا خير أمتهم، وتطرب نفوسهم له، ولا ترانا مع اختلاف مذاهبنا نحرص على تلك النصائح، فيدعو أصحاب كل مذهب أهليهم إلى معرفة الخير في المذاهب الأخرى، ويُذكّرونهم به، ويُخبرونهم أن الناس مثلهم، يُعجبهم أن تحتفظ الذاكرة بخيرهم، وتغفل عن أخطائهم، وتسهو عمّا كان منهم. ربما أنكم معي في قولي، وتؤيدونني في طرحي، ولعلكم أيضا معي في أن علاج هذه الذاكرة الظالمة، ومن الظلم أن تحتفظ بالعيوب وتتناسى الصالحات، يكمن أولا في الأمة التي تُغيّر ما بأنفسها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ويبدأ من قادتها المسؤولين عن تغيير خطابها مع الأمم، فينشأ ناشئ الفتيان منا على معرفة خير الأمم في عالمه، ويسمع ممن حوله حسناتهم، فيجد للأمم مثلما يجد لأمته، ويُدرك أن الناس في هذا العالم مثله، يحبون الإطراء ويعشقون حفظ الحسنات، فتعود هذه التربية عليه حين ينظر إلى إخوانه ومخالفيه من أهل دينه، ويصبح منهجه مع مخالفيه قائما على تلك النصائح التي تُدفع في كل بيئة مسلمة إلى الأفراد، لعلهم أن يعرفوا ما عند غيرهم من الخير، ويحرصوا على تذكّره، ويتركوا حشو ذاكرتهم بضده، وبهذا ربما نستطيع أن نداوي ذاكرتنا المسلمة التي تعرف حسنات الأقربين، وتحجب سيئاتهم، وتقف مع غيرهم على النقيض من ذلك كله؛ فالبدء بالأمة وخطابها بدء بالكلي، والمؤثر الأعظم، وحينما تستأنف الأمة المسلمة تغيير خطابها مع الأمم، وتبديل ذاكرتها عنهم، يبدأ أفرادها بذلك، وينتهون عمّا كانوا عليه، فالعيش مع العالمين في وئام ينقلب على الأمة طوائفها وأفرادها، ولا وئامَ دون تجديد الذاكرة، وإعادة تشكيلها.