التاريخ لا يمكن قراءته مجزأً منفصلاً، إنه حلقات متصلة.. فلولا فشل تلك النظم لم تحدث تلك الانتفاضات والثورات.. ولولا المواجهة القاسية والعنيفة للشعب المنتفض على الظلم والفشل الطويل ما كان لهذه الموجة القاسية أن تدوم قتلاً وسفكاً وتدميراً وخراباً.. ثمة حنين لا يمكن إخفاؤه لعهد الديكتاتور.. وكلما زادت الأمور تدهورا، وانكشفت عجزا وفشلا، وتلاطمت المصائب من كل حدب وصوب.. تذكروا عهد الديكتاتور وذكروه بخير. هذه الظاهرة تبدو جلية واضحة في المنطقة العربية.. بعد قرابة ست سنوات على تفجر أحداث ما عرف بالثورات أو الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية. لا تستطيع أن تلوم البشر على مقارنة حالهم بين مرحلتين.. فهنا لا يرى الإنسان سوى أمنه ومعيشته.. لا يرى الإنسان البعيد عن تعقيدات السياسة ودوائر الحكم سوى ما يكفي لإطعام أطفاله وشراء الدواء لهم وإرسالهم للمدرسة وتوفير سقف آمن يعيشون تحت ظله.. حتى لو كان سقفا لحياة كلها معاناة وشقاء.. وعندما تتدهور أوضاعه إلى الأسوأ وتطل الكوارث الكبرى ويختنق الأمل.. فمن الطبيعي أن يكون ممتنا لما كان مقارنة بما حل به. إنما من يدرك ترابط الأحداث وحتمية تكوين الأزمات، وخيارات الحكم واتجاهات الساسة وأسلوب الإدارة وطبيعة النظام.. لن يخفى عليه أن هذه البعرة من ذاك البعير.. وأن هذا الأثر من ذاك المسير.. كما يقول البدوي العابر لفيافي الصحراء. الجهل بحتمية التدهور، هو الذي يصنع تلك الأحكام والمقارنات بين مرحلتين.. حتى بين من هم بعيدون عن مكابدة تلك الأحداث.. مرحلة الاستقرار تحت سقف يصنعه المستبد ويحرسه نظامه، وبين مرحلة مخاص عسير كل شيء فيه يتغير ولكنه تغيير قاسٍ وصعب وكلفته عالية.. خاصة في هذه المنطقة من العالم التي تحمل جنين عنف لا حدود له، وصراعا لا رحمة فيه، وعلى مذبح السلطة تقع جرائم لا حصر لها ولا عد.. وهنا لا تُرى سوى حرائق ودماء ودمار.. وما يستتبعها من اقتصاد يتهاوى وغلاء يتفاقم واحتياجات لا تجد من يلبيها، ومخاوف تغزوها مخاوف.. وآلام لا تفارق الآلام. أن تحكم هذه المنطقة نُظمٌ لأربعين أو خمسين عاما.. ثم لا تجد بعد رحيلها القسري سوى الخراب والفوضى والتفكك والتأزيم .. فهذا إنما هو الدليل الأكبر أن الديكتاتور لم يصنع دولة إنما صنع نظاما فقط.. ولم يبن مؤسسات دولة وإنما بنى أدوات تحكم.. ولم يعنَ بالمستقبل قدر ما كان يعنيه القبض على الحاضر والمستقبل في آن. إن مصائب العرب اليوم في بلدان تعيش مراحل قاسية وعنيفة وتتعرض شعوبها للموت في كل لحظة، وتبحث عن النجاة كل حين، وتدفن قتلاها كل دقيقة.. بينما تظل أحزانها أنهرا من حرائق وسعار دفين.. ليست سوى نتيجة لصناعة الديكتاتور، ليست سوى ثمرة لسرقة بلدان وشعوب وقدرات على مدى عقود.. ليست سوى نتيجة عقود من التسلط والفقر والقهر. ثقافة السلطة في البلدان العربية المنكوبة اليوم هي المسؤولة عن هذه الكوارث.. تشكلت معظم هذه النظم خلال النصف الأخير من القرن العشرين عبر انقلابات وانقلابات.. لتبدأ حقبة الاستئثار والقمع المتواصل، ولتنشر الرعب الذي عطل العقل والمبادرة، ولتأتي قرارات قيادة مهووسة أحلت بالمنطقة كوارث لا قبل لها بها.. ولتستمر تداعيات لم تزد الأوطان سوى مراكمة للأزمات واحتباس للأمل وفقدان لشهية الحياة. أنظمة من هذا النوع لا يمكن أن يقودها سوى مستبد قاس يلتهم الأمل مع الأحلام ليضع شعبا كاملا في قفص قلة الحيلة واليأس.. حتى إذا حدث الحراك الشعبي قبل بضع سنوات انكشفت ملامح النظام.. وكانت الصدمة كبيرة ومدوية.. حيث تكشفت ملامح دولة ليست ككل دولة، فكل المؤسسات رهن النظام الحاكم، وكل النظام في مهب الريح، وكل الأدوات ظلت في يد من يريد استعادة ما فُقد ليضع الجميع في مشهد الفاجعة. ثقافة السلطة في بعض بلدان العرب تربية قسرية على الطاعة والاستجابة والاستحواذ، وليست ثقافة مؤسسات راسخة في دولة لكل مواطنيها تعمل في كل الظروف.. ولذا عندما حلت الكارثة بالنظام انكشف الجميع للجميع.. وظهرت ديكتاتوريات أصغر هنا وهناك، وحروب طوائف هنا وهناك، واستئثار هنا وهناك.. وكلها تدعي وصلا بثورة والثورة لا تقر لها بذاك. إن هذا المولود المشوة لم يكن سوى ثمرة لذاك الحمل الذي طال لسلطة ديكتاتورية مستبدة، ربما أقسمت أنها لن تورث سوى الخراب.. أنا أو الطوفان.. وهذه الأوضاع المؤلمة لم تكن سوى ثمرة لتلك النظم التي عاثت في أوطانها خرابا. التاريخ لا يمكن قراءته مجزأ منفصلا، إنه حلقات متصلة.. فلولا فشل تلك النظم لم تحدث تلك الانتفاضات والثورات.. ولولا المواجهة القاسية والعنيفة للشعب المنتفض على الظلم والفشل الطويل ما كان لهذه الموجة القاسية أن تدوم قتلا وسفكا وتدميرا وخرابا.. ولولا ثقافة السلطة الشائعة في غياب مؤسسات الحكم الرشيد لم يكن لهذه الخيارات أن تنحسر إلى درجة الارتهان لجماعات وجماعات تحمل كل طامع للسيطرة والتمكين تحت لباس التقوى أو الثورة أو الطائفة أو الدفاع عن شعب، يدفع اليوم الثمن الباهظ مرتين.. مرة عند رحيل الديكتاتور ومرة في مواجهة الطامحين الجدد. فتشوا في أضابير التاريخ ستجدون أن هذه النوعية من الحكام هم من قادوا شعوبهم لمصائر قاسية ودموية وبائسة.. ولن يكون مستغربا أن يأسر الحاكم القوي لب الذين مازالوا يعيشون ثقافة القائد الملهم والضرورة، لكنهم قد لا يدركون أنهم قد يكونون أول ضحايا هذا النوع من الحكم اللارشيد. أما الانفلات والضياع والفوضى وقسوة الحياة التي تعقب رحيل نظام الديكتاتور فهي مرحلة طبيعية في خضم ما زرعه النظام وبناه خلال سنوات طويلة، فهو نظام الرجل الواحد والحزب الواحد وأجهزة القمع المتعددة.. وأدوات التجهيل والتظليل.. الجهل والاستبداد يغذي كل منهما الآخر، وكلاهما شر لا بد من مواجهته.. الأول بالمعرفة الحقيقية الفاحصة والعقل النقدي المتيقظ، والثاني برفض كل نظام لا يحقق الشروط الأساسية ببناء مؤسسات حكم قيد الفاعلية.. في سياق جربته البشرية وخبرت نتائجه.. ومهما قيل عن سلبياته.. إلا أنه يبقى الضامن من كوارث الاستبداد وتبعاته.