ليس كل المودات مما يدخل الريبة إلى النفس، فصادق المودة مما تؤسس على غير مصلحة مادية تدفع للتقرب والمحبة، وإذا لم تتحقق المنفعة انتفت المحبة، وإذا توطدت قد تتكشف عن مقاصد التجسيد والملل من الرتابة. والمحبون يكفيهم الأمل والارتواء من مشاعر الوجدان المتبادلة بما يعززها من مكارم الأخلاق. قال جميل بثينة: وإني لأرضى من بثينة بالذي لو ابصره الواشي لقرت بلابله: بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى وبالأمل المرجو قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي أواخره لا نلتقى وأوائله وحب يجر إلى الإثم نهايته ندامة، وذكراه ملامة. وإذا تجرد الحب من معاني الفضيله فلا معنى له. وهذا ما غرس في بنات الصحراء – ومن سار على مذهبهن في الحب – الجرأة والبوح بما يختلج بين ضلوعهن من حب. لماذا؟ لأن حبهن للرجل يؤسس على الاعجاب باخلاقه وفروسيته وقد لا تصرح لمن تحب بما تكن له من مودة باعتبار أن خصاله الحسنة حالة طبيعية وحري به أن يضاعف من تفعيلها وتمثلها. تقول وضحا الجدعية بعد وفاة زوجها الذي لم تكن تبدي له ما تكن له من محبة: يقطعك يا كنان حب المودِّ وش عاد ينفع به عشيرك بعد راح الضان يَشْرب له شراباً معدِّ وانا شرابي دمع عيني ليا فاح هذي جواده عند راجح تشدِّ تفز لا سمعت ورا النزل صياح ما جاضرت وجناه من شين بدِّ ولا هو بيشناني على كثر ما راح إلى قولها: ليته درى عن كثر حبي وودي ما كان يقعد لوتهاوته الا رماح واصاحبي يوم اول الجيش ر دِّ حول بمسلوب عليه الدرم لاح تصف شجاعته ونبله وكيف تلقى المنية في ميدان لا يخطر فيه غير البواسل. مهما كانت الدوافع فتقاليد العصر تفرض قيمه. ووضحا تعرف أن الرجال أيضا لا يبدون مودتهم لنسائهم أو أبنائهم فتلك المودة لا يعززها الاعلان عنها، وإنما ينشدون تجسيدها بالأفعال. ووضحا الجدعية من مطير نموذج من نساء الصحراء في الزمن الماضي زمن الصراع والمشاركة من أجل البقاء، حيث تختلف المرأة فيه عن زمن الرفاهية والتدليل الذي به ترضى المرأة ويسود الرجل. وتأمل الأبيات التالية للشاعرة نفسها تدعو الله لابنها اليتيم أن تناله عناية الله ليحقق آمال الأم عند ما يكبر: وهنيّ من شافه يقود الأصيلة متجنّب صفر وسروال تومان ومزرّج عطب الضرايب يشيله ليا جا لهن عقب الصلاتين ميدان وإن كان ما شلّ الدمي قدم جيله والاّ لعله ما حِمِلْ به ولا كان ذاك زمان مضى بعلاته، نعرض هموم أهله ورؤاهم التربوية التي يعدون أبناءهم لها غير مبالين بغير النجابة والرجولة التي تستجيب لحاجة زمانهم، ودون أن يحقق ذلك فيا أسفا على حمل أمه له وليت وجوده لم يكن. وتبلى وضحا بوفاة زوجها الثاني الذي كان من إشفاقه عليها ساعة سألته عن حاله وهو يحتضر أن يطمئنها ويقول لها: أنا بخير. وما هي إلا ساعات وتوفاه الله فقالت ترثيه: تبيْ ترجّيني وانا منك عايف وعيونك الزينات قد غوَّرنِّ بالمقبرة زول عليه الحسايف وباقى الجنايز شيلها ما شحنِّي ثم تمتدحه شجاعة وكرماً وعطفا: أبو قرون فوق متنه عطايف على مصاريع الفرس شرَّعنِّ شكله جميل ولا بعد قيل خايف ما هو بمخلوقٍ على وصف جني مرحوم يا مرذي البكار العسايف زوّع بهن يوم النجوم ادبحنِّ من عادته يجي بذود ولايف كم هجمةٍ جاني عليهن يغني في البيت الأخير تمجيد لشجاعته بأن كسبه من الغزو ليس إلا من أهل الدثور والإبل الكثيرة بدلالة الذود الولايف. وللمرأة في ذلك الزمن فراسة في معرفة الخيل والإبل، فعندما سمعت شاعراً يصف الجيش بالشحم انتقدته وقالت إن الشحم يضر بالجيش المنجّب، وقالت: أنا لياما اني بغيت ابدع القاف أقداه لين القاف يعطى القنادي كثر الشحم يثّر على الهجن بخلاف إما هدد والاّ فرصها الشدادِ ثم تتمنى منها ما كان مثلما تقول: الله على حِيل هجاهيج وخفاف ما دقّهن زور الجمل بالهدادِ لا هن بهجّاف ولا هن برجّاف مفرسناتٍ يقطعن الريادِ وهذه دلالة على فراسة ومعرفة بطبيعة الابل الأصيلة في الحل والترحال، وعند الطرب للهيجنه بالشعر غناء يذهب عنها الوجل والارهاق، وقد عرفنا هذه الفراسة من شعر الرجال وإذا بوضحا المطيرية تبدي خبرتها ومعرفتها الجيدة بالإبل. وهي على مذهب جيلها في المراسلات، حيث يبدؤون الرسائل الشعرية بوصف الذلول الراحلة التي تحمل الرسول إلى هدفه، فوصفت جيشا توجه للوفادة على المك عبدالعزيز رحمه الله، وفي الوصف ما يليق بهذه الركاب، قيمة معنوية في ذلك الزمن تعبر عن الاحترام والاجلال ومكانة المرسل والمرسل إليه فتقول مباهية بالعدد والوصف الذي يليق بمقدم الوفد والموفد إليه: يا راكبا من فوق عشر وثمانِ وعشرين من جيش البدارين ينقن قطم الفخوذ مشرهفات الأذانِ واكواعهن لا زوارهن ما ينوشن ما فيهن الفاطر ولا المرجعانِ حراير من نقوة الجيش ردّن أكبرهن اللي جالس له زمانِ واصغرهن اللي للشكايم يطيعن وان روّحن مع قيعة دندناني ما هو جس الهو جاس بقلوب اهلهن وليا لفن الحاكم الصير ماني دوروا عليهن بالمناخة يهجعن أبغى جزاته يا سهيل اليماني زوامل من تالي العزل ردن وهي تركز في شعرها على وصف الركب، ولم تبين الهدف من الوفد ولم تمتدح الملك بغير الحاكم الصارم وهو معنى شامل للقوة والعدل وعلو المكانة، على أن الاهتمام بوصف الوفد دليل على مكافة الملك لدى الشاعرة، ومن الأدب أن تترك موضوع المهمة لأعضاء الوفد الذين يعبر عن مكانتهم وصف ركبهم. وأخيراً فإني أطرح هذا النموذج من زمن ما قبل المائة عام، لم أبذل جهدا للتحقق من الأحداث، ولا أسعى لتمجيد زمن على زمن وربع على ربع، ولكن وقوع كتاب: شاعرات من قبيلة مطير جمع وإعداد ليلى بنت عياد المطيري ، دفعني ذلك لطرح نموذج للمرأة البدوية في بلادنا في زمن لم يحظ بالدراسات المنصفة. وهذا النموذج يؤكد ما عرف عن هذه البيئة من جمال في الخلق والأخلاق، والصراحة التي تعبر عن نقاء السريرة وسلامة الجريرة. ألا فأعلنوا حبكم لمن تودون فقد عرفنا من الأثر: إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره. فإن ذلك أدعى لصلاح الأخلاق وإشاعة المعروف. عبدالرحيم الأحمدي