وأعني بالبادية المجتمع البدوي فيما قبل زمننا هذا، ولقد تغيرت معايير القيم الاجتماعية عند البادية والحضارة بأسباب الاندماج والثقافة المكتسبة واقبال البادية على المدينة والقرية، حيث جبل البدوي على النجعة إلى حيث المنافع والمصالح. وأعني بالهوى ما يهوى الإنسان من معطيات الحياة البشرية وأبرزها حب الآخر، وبخاصة حب الرجل للمرأة باعتبار أنه يصرف المحب إلى من يحب، فيغرق في الغرام به وينسى الواجبات الاجتماعية والتي تعد من ألوان الهوى، ومنها الفروسية والكرم والبر وتشكيل الشخصية القدوة. ومن هنا جاء تحذير الشاعرة صالحة العتيبية لأخيها غازي من ورود موارد العشق حينما أسمعها أبيات غزل أطلقها عندما مرت بمضاربهم فتاة جميلة فقال: يا مرحبا باللي على بيتنا مر رد السلام وما معي فيه حيلة يا مرحبا عَدَدْ حَصَا (كِشْبْ) واكْثَرْ وعَدَدْ جراد طايرٍ من مِقِيله يا حِلْوْ زَوْلُه يوم لِبْس المشَجَّر ياطا بمصبوب القدم في شليله ترحيب وشكوى من امتلاك الزائر قلب الشاعر، وزيادة في الترحيب بما يزيد على حجارة هضبة كشب المعروفة بوفرة حجارتها، وعن أعداد الجراد حينما ينهض من استراحته بعد رحلة طويلة ثم يهب لمواصلة الطيران، وقد يكاد يحجب أشعة الشمس في كثير من حالات تجمعه، وكان الناس يجدون في الجراد وجبات غذائية ذات سعرات حرارية جيدة، وابتهاجا احتفالياً بظهوره، في الوقت الذي لا يرحب الزراع بقدوم الجراد لأنه يفتك بمزروعاتهم. ثم ينتقل الشاعر إلى وصف الزائرة بغلالتها المشجرة وهو قماش حريري نادر يتباهون به ويطيلون رداء المرأة تعبيراً عن النعمة لتطأ أقدامها في أطراف ردائها، تلك الأقدام الجميلة المكتنزة كأنما صيغت في قالب محكم الصنعة والمقاييس، وهذا الوصف الجزئي إنما هو دلالة على كمال الجوانب الأخرى في المرأة من جمال الشعر والنحر إلى غير ذلك، وببيت واحد دلل على جمال ما لم يتطرق له من مصادر الجمال فيها. لذا تنبهت أخت الشاعر إلى وله أخيها بهذه الفتاة العابرة، وأدركت مدى اهتمامه بالغزل والتشبيب والذي كثيرا ما يحذّر البادية أبناءهم من ارتياده خشية أن يشغلهم عن اهتمامات أخرى يعدون أبناءهم لها، وهذا لا يعني تحريم العواطف الجياشة التي تنشأ بين الجنسين، ولكنه توجيه وفق أولويات الاهتمام وتحري الاتزان وبناء العلاقات على أسس الفضيلة المنشودة. وكان تنبيه الشاعرة موجزا في الأبيات التالية: أنهاك يا غازي عن الحب الاقشر أنهاك عن درب الهوى وتغدي له راع الهوى يا مال جوع المجدّر ترى الهوى ما هو خَطَاة الحليلة ترى الهوى حسك الوبر حلوة الدر ليا برّكن حيرانها بالسليلة ترى الهوى رمحٍ على حارك اشقر اللي على الرَّكَّاب يكسر شليله ترى الهوى عزمة ركيبٍ إذا مر عن بيت خِمْعٍ ما ينشّط مقيله ويبدو أن الفتاة حذرت أخاها من قبل عن ورود الهوى الذي تصفه بالقشارة وهي السطوة والنفوذ الذي يمتلك العاشق ويهمين على تفكيره فلا يقدر على التحرر من شراكه، والقشارة لا تعني الذم المباشر، وقد يطلق مجازا على كل من طبعه الاصرار أقشراً، وهنا تفيد المدح عندما يكون الاصرار خلقاً كريماً. وتكرر الشاعرة النهي في عجز البيت دلالة على خطورة الانجراف خلف الهوى ودلالة على عمق معنى الأخوة ودلالة ثالثة على سلطة الهوى حينما ينصح العاشق فيعاود الغدو إلى دروب الحب، والحب أقشر لصعوبة التخلص منه ولأنه أخيراً قد يصرف كثيراً من المولعين به عن شؤونهم. ثم تطلب من أخيها أن ينظر إلى من ابتلى بالهوى أنه لا يمل ولا يقنع بالكثير منه مثله مثل المجدور فإنه لا يشبع. ولتعلم أيها الأخ العزيز أن الهوى ليس إلا طلب المجد من شجاعة تدفع شراً وتغيث ملهوفاً، وتحقق نجدة، وأنه المال الذي ينفق في الفضائل، ويجيء من تنمية الثروة التي لم تكن في زمان الشاعرة غير الابل ذات الوبر القصير الذي يشبه شوك الحسك، وذات الدر الوافر، والمنظر الجميل لحيرانها تتباهى بالحركة وافتراش الرمال، هذه المشاهد الجميلة لا يراها إلا من تغذى بلبان البرية، وتنشق عبيرها، وعرف مدى عطائها. وتضيف إلى ذلك هوى الفروسية رياضة في السلم ومهارة في الحرب، والحارك الأشقر هو الحصان الأشقر، غزيل شعر الذيل يتباهى الحصان به فيرفعه ليبلغ راكبه، وقد مثلت الذيل بالشليل الضافي دلالة على الجمال وعلى عناية الفارس بفرسه. وأخيراً تجد أن الهوى هو الكرم حينما يعترض الكريم العابرين في الصحراء ليدعوهم للقرى ومؤانستهم بالحديث الذي يعبر عن الفرحة بقدومهم، ولا تنسى الشاعرة ذكر نقيض الجواد وهو الخمع الذي يهرب من الضيوف شحاً، وإن اضطر فلا يكون لاستضافته روح تبهج الضيوف والجلاس، والمقيل وإن كان ساعة الراحة ظهراً فإنه هنا كناية عن حرارة اللقاء والترحيب بالضيوف، والعزمة هنا تعني الإقدام بدعوة ضيوف تجاوزوا البيت واللحاق بهم لردهم إليه ضيوفا. ثم تؤكد الشاعرة العناية بالضيوف: خَلَّ الشحم والسمن للرَّبْع يكثر مع منسف دافٍ عليهم تشيله من ضَيْنَنا والا فضَيْن المتجَّر عَطْهم ثمنها نقد والاّ بحيله ما هي ببنت الي نعوله لهن كَرْ اللي على متنه مدافق صميله توصي أخاها ألا يقدم للضيوف غير السمين من الضأن، مضافا إليها دفاق السمن يتخلل الطعام الذي يقدم ساخناً تعبيراً عن جودة الاختيار وحسن الخدمة، ودلالة على لذة هذا الطعام في الصحراء في ليلة مطيرة أو شاتية، وإذا لم يتحقق الاختيار من أغنامهم فليكن بالشراء من باعة الأغنام نقداً أو بالاجل، صورة من صور الحياة الاجتماعية في البادية. وفي البيت الأخير تذكره بحسن اختيار فتاة المستقبل من بيت رفيع المكانة له في الفضائل ذكر حسن، ليس من أهل الوضاعة ودنو المكانة. والصميل هنا سقاء اللبن. بقي أن نقول أن الحب عرف في البادية بنقاء السريرة وشرف المسلك، يصرح به الفتى والفتاة ولا ينكره أهلهما، ليقينهم بأن مصدره إعجاب بفضيلة ينتمي إليها الطرفان، وصون لخلق يتحلى به كل منهما، وتجاوز ذلك يترتب عليه عقاب مادي ومعنوي يظل مطارداً لكل من يقع فيه، وقد يدفع إلى التشرد ومبارحة الديار إلى ديار بعيدة، لن يكون قبوله فيها سهلاً ولا استيطانه بها مريحاً ولكنها معقبات الخطأ أدت به إلى الاغتراب لدفن مأساته. ومن هنا كانت القيم الاجتماعية السائدة أكبر وازع للافراد وهم أشد تمسكاً ومحافظة عليها، لأنها تنظم العلاقة بين الأفراد والجماعات.