الحوار والمراسلات الشعرية في الأدب الشعبي لون من ألوان الشعر الاجتماعي والثقافي والأدبي الذي يحرص شعراؤه على إحكام إبداعه ودعمه بالمكتسبات الثقافية والرموز ذات الدلالة على تمكن الشاعر وثقافته، وذلك توثيقا ودعما للحجة وتحسباً للنقد الذي يظل زمنا طويلا يردد في المنتديات مدحاً أو ذما للشاعر. وللحوار الشعري أدبيات يتبعها الشعراء المبدعون من ذوي التجربة احتراماً لأنفسهم وتقديراً لنظرائهم، ومنتديات الرد تكاد تنفرد بهذا النوع من الشعراء حاضري البديهة، لاذعي الرد عند التجاوز الذي يحدثه الانفعال أو حداثة التجربة في ميدان الرد، فقد يعمد بعض الشعراء من ذوي الخبرة إلى استدراج محاوريهم للايقاع بهم وكشف سطحية تجربتهم، فينجرفون وراء الاثارة التي ينشدها المتابعون فتحدث المشادات وتجاوزات أدبية الحوار. ومن أجمل الحوارات التي اتسمت باحترام النظير والند ما دار بين الشاعر مخلد القثامي وبعض معاصريه ومنافسيه، والذي جاء حواراً عبر مراسلة دونها الأستاذ سعيد بن عواد الذيابي في مؤلفه «ديوان الذيابي ومنوعات من نوادر شعراء الجزيرة العربية» الجزء الأول، حيث يذكر أن فتاة تدعى جزعا الروقية من عتيبة فتن بها حباً الشاعر المبدع مخلد القثامي الذي توفي حوالي عام 1337ه وهو من قبيلتها وقد أبدع فيها قصائد كثيرة سارت بها الركبان، وهو غني عن التعريف وقصة حبه هذه مشهورة، ولا عيب فيها لما يتمثل فيها من كرم الأخلاق ومراعاة الدين والأعراف التي كانت سائدة في مجتمعهم حينها، فالرجل يحب المرأة التي تتحلى بالفضيلة والانتماء إلى أسرة زرعت فيها مكارم الأخلاق وأحسنت تربيتها، والمرأة حين تحب لا تتردد أن تعلن حبها لأنها لن تحب غير فارس اجتمعت فيه الشجاعة والنخوة وعرف باستقامته بين ربوعه، ولذا فإنها تستشار عند تقدم أكثر من واحد لخطبتها، وهذا ما حدت لجزعا التي وفد إلى مجلس أبيها عدد من الخطاب، وكلهم ممن تجتمع فيهم الخصال التي تنشدها كل فتاة في قرينها، لذا كان جوابها لأبيها عندما جاء يستشيرها فيمن تختار منهم وقد ذكرهم لها فقالت: ليس فيهم تخير وإنما الأدنى منهم سداد، أي أقربهم مجلساً منك، فكان مخلد القثامي هو الأدنى مجلساً من أبيها فتم زواجه منها. نعم، لقد أحبها مخلد ونظم فيها أجمل القصائد وعرف تعلقه بها، لذا كان من منافسيه من ظن أن الأمر مدبراً من قبل. وقد تلا ذلك تبادل كثير من الأشعار التي تعبر عن الاعتزاز بالنفس واحترام الآخر، ومنها ما اتسم بأدبيات الحوار والترميز الذي ليس للمباشرة فيه خطاب، وإنما فيه ما يقول الذكي للاشياء التي يتعذر حصوله عليها: «حامض يا عنب»، ومثل جزعا لا يتقدم لخطبتها غير كفؤ، وهذا ما كان عليه كل الخطاب الذين استقبلهم والدها واستضافهم، وحكمها فيمن تقبل به زوجاً، ولذا لا يحمله أي منهم مسؤولية خسارته. كان أحد الخطاب متروك السميري من كرام القبيلة وأعيانها، وقد أثارته خسارته فأنشأ قصيدة منها: كِرِيم يا بارقْ تقَافَى سحابُه يُمْطر على البَرْقَا وضِلْع المرازيق تَبْرُق مقاديمه وتِرْزِمْ عقابه ومزنه على خَشْم النويّع مدانيق افتتاحية جميلة تعبر عن تقدير للقضية وأهمية كسب مخلد لجائزة المنافسة، وجزعا هذه تعلق بحبها كثير ومنهم مترك هذا الذي يتحسر بعد المقدمة على جزعا ويدعوها طيرة وقد عرف افتتان أبناء الجزيرة بتربية الصقور فيقول: واطَيْري اللى جاه طَيْرٍ غَدا بُه طير الهوى من مطلقات المسابيق طَيْر جِذَبْ طيرى غدا به نْهَابة حطَّاب بوَّاج البحور الغواريق ما حَسّفتنى عند مِرذِي ركابه أصْبِر كما ما يصبرون البراريق وهنا يمتدح منافسه بما عرف عند البادية من مفردات المديح الجميل، ثم يعزي نفسه بأن طيره لم يقع في أيد لا يستحقها، وهذا ثناء على مخلد. ولكنه يبرر لنفسه هذا التنازل بأنه يفضل الحب الخالص الذي لا يشاركه فيه غيره، فيقول: أنا إلى عدٍّ صَفَالي شرابه ودّي بمشروبه إلى صار ما ذيق وإلى كِثِرْ وِرْده وحوّم غرابه منعتها ولها على الله التوافيق وهذا لا يعني إساءة إلى جزعا، فليس لها ذنب في كثرة عشاقها إلا أن جدارتها بهذا الاهتمام جلبه إليها ما تتمتع به من جمال وفضائل أخرى اكسبتها حب الآخرين ومنحتها ثقة أهلها وقبيلتها فأصبح من المتعذر الإساءة إليها، وإنما عنى الشاعر كثرة من يحبها ويتمناها فذكرها الجميل على كل لسان. ولهذا يختتم أبياته بفرقة رمز لها بحومة غراب البين، وليس لديه إلا أن يتمنى لها التوفيق. أما رد مخلد على أبيات متروك فكانت أبياتا قليلة مكثفة المعنى، ولم لا يوجز وقد فاز بمن أحب وإليها سيصرف وقته ويترك الشعراء يخوضون بما شاءوا فيقول: يا راكب اللي مثل هَرْف الذيابة يعدلون رقابهن بالمساويق رسول على خير الإبل سرعة وانطلاقا، يكبحون سرعتها بأرق العصي، فهي ركاب نوعية، تعبيرا عن احترام المرسلة إليه، وهو أخو نوره متروك السميري: لَنْ جيت اخو نورة يعدّل جوابه رِيف الركاب اللى عليهن مطاليق يمتدحه بالكرم وطلاقة الوجه والاستقبال، وطلق المحيا هو البشوش والبشاشة من علامات الجود والأريحية والثقة في النفس، أما الرسالة فهي مجملة وموجزة فيما يلي: لا يِعْجبه برقا تقَافَى سحابه حَالَنْ من دونه طوال الشواهيق نَبْتُه ومنفوعه لمن هو رَعَى به ويا تابعه شِرْهوا عليك المخاليق اصرف النظر يا متروك فقد طارت الطيور بأرزاقها، وحالت بينك وبينها الموانع الصعبة، فلم تعد لك مصلحة ترجوها، بل ان ذلك يجلب إليك الندم وانتقاد معاصريك. ولأن مخلد شاعر ومبدع جاء رده يحمل حكمة، بعيداً عن التشفي والفرح بفوزه وخسارة منافسيه، الذين لم يصدر منهم ما يسيء إلى مخلد، بل إنهم نقلوا لنا أدبيات مجتمع بدوي قيل عنه ما قيل من جور القول وقصوره. والمتتبع لمسيرة ولع مخلد بجزعا وما نظم فيها من قصائد يعرف أنه الأجدر بها، رحم الله مخلد وجزعا وأهلها ومنافسي مخلد في التعلق بها، وليعلم الآخرون من أبناء جيلنا أن الفتاة البدوية في زمن جزعا تخضع لقيم مجتمعها في زمنها، والتي بمقدار ما تكون عليه من احترام لذاتها ومجتمعها تعطى المكانة التي تستحقها، وهي في ذلك الزمن تقوم بأعمال شاقة من رعي واحتطاب وجلب الماء واعداد الطعام للاسرة والضيوف إلى ما تقوم به من صناعات محلية كالنسيج والجلود ومشتقات الحليب، وقد تجلب العلف من الجبال والفياض وتقوم بأعمال الخياطة والتفصيل والتطريز والاعمال الزراعية فماذا أبقت للرجل؟ الغزو والصيد والتسوق، إنهم يبيتون على الطوى أحيانا، ولكن عزاءهم في انتظار المطر. اللهم ألهمنا شكر النعمة. وأخيراً أود القول إن كتاب الذيابي فيه متعة ومعرفة، جمع من نوادر الأخبار والأشعار ما يثري ثقافة القارئ لتنوع موضوعاته زمانا ومكانا وحياة.