النصيحة والتوجيه من الأمور الثقيلة على كثير من النفوس، وخاصة النفوس السادرة مع هواها، فإن النصح أثقل عليها من جبل، مع أن المثل الشعبي يقول: «النصيحة بجمل..» أي تسوى جملاً، حين كان الجمل ثروة.. وصغار السن، والمراهقون، والشباب في الغالب، تثقل عليهم النصائح والتوجيهات ما لم تصدر عن مودة وحب، وتقدير للعمر الذي هم فيه، ولظروف العصر الذي يعيشون فيه، فقد قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خُلقوا لزمانٍ غير زمانكم». لقد أضاف الفاروق - بعبقريته - الأخلاق هنا إلى الآباء، وهي صفات شخصية تختلف جوهرياً عن الأخلاق الحسنة المطلقة التي حضت عليها كل الأديان واتفقت عليها جميع البشر الأسوياء على مر العصور، فهي لا تتغير بتغير الزمان والمكان كالصدق والوفاء والاستقامة ونحو هذا من حميد الأخلاق، وضدها ما ينهى عنه باتفاق كالكذب والغدر والسرقة ونحو ذلك.. فإضافة الفاروق الأخلاق هنا إلى الآباء تعني وتحدد صفات الآباء الشخصية التي اكتسبوها من زمانهم الذي يختلف عن زمن أولادهم، وعلى سبيل المثال فقد يكون الأب أميًّاً ويريد أن يجبر أولاده على رعي الغنم والإبل والاقتصار على ذلك كما يفعل هو، مع أن زمانهم فيه تعليم متاح لم يكن موجوداً في زمانه، وفيه متطلبات لا يعرفها.. وقس على هذا.. المهم في الموضوع هو أن التوجيه لا يدخل النفوس ما لم يكن مصحوباً بالرفق والود، يشعر سامعه بمحبة الموجه له، ومعرفته بظروفه، وحرصه على الخير له، وأنه ينصحه لصالح نفسه - أي المنصوح - بدون غرض شخصي أو تسلط ذاتي، وبأسلوب حكيم مقنع تضرب فيه الأمثال وتصور به الأحوال حتى يدخل (مخ) المراهق والشاب وصاحب الهوى، ويدخل قلبه، فيفكر فيه جاداً، ويقتنع به من الداخل، ولا يكتفي بمجرد القول «طيب» أو «أبشر» وهو غير مقتنع ولكنه يريد إرضاء الناصح وقتياً وإسكاته ودفعه، فإن الإنسان قلما يعمل بالنصح والتوجيه ما لم يقتنع به بعقله ووجدانه بحيث يتم التغيير من داخله كما قال الشاعر: «لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر» فإذا قدم الناصح توجيهه بمودة وحب وأسلوب طيب مقنع فإن متلقي التوجيه يفتح عقله وقلبه فيردد الأمر في نفسه حتى تزجره نفسه بفعل ذلك التوجيه المقنع الودود. ومن شعرنا الشعبي قول الشاعرة (الراسية) توجه بنات جنسها بأسلوب فيه مودة وإقناع: «لا ترخصين النفس يا بنت تكفين بعض البشر ما يستحق الموده يلعب على كل العذارى بحبلين وللدرك الأسفل با الغريره مرده يجهل أصول العرف والشرع والدين ضد المبادي، والتقاليد ضده متمرس في مهنته قد له سنين يشدكم له والطواري تشده مصيونة عنه كل الفناجين تنشل يمني بالمجالس تمده لا تأمنين اللي مواريه وجهين جعل الليالي السود عنك تلده النية القشرا لها الف تخمين وبعض النوايا المشكلة ما تسده يا غاليه ضرب الهوى للمساكين والمصلحة بأمر الهوى تبل المخده كل العصور السالفه والمحبين راحوا مع مراح جدك وجده لا تخلطين الما يا بنت بالطين الفرق واضح بين عدك وعده انتي الذهب يا بنت بالعسر واللين والله يعين اللي غدا فيه مده» قول الشاعر: «للفرق واضح بين عدك وعده» فيه كناية جميلة (رمز) فالعد هو مورد الماء (الكلمة فصيحة) فهناك مورد ماء عذب زلال طاهر طهور، وهو البنت العذراء البريئة المرسل لها التوجيه المحب الودود، وهناك مورد بخس خبيث تجوس فيه العقارب والثعابين يمون من يرده، وهو ذئاب البشر من الذين يعملون على الإيقاع بالبريئات عن طريق معسول الكلام والخداع بكلمات الحب الكذوب حتى يقضي الذئب وطره ثم يترك الفريسة مضرجة في دمائها.. ويقول الشاعر القديم في توجيه جميل: «واستغن ما اغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتحمل وإذا هممت بأمر شر فاتئد وإذا هممت بأمر خير فافعل وإذا افتقرت فلا تكن متخشعاً ترجو الفواضل عند غير المفضل وإذا تشاجر في فؤادك مرة أمران فاعمد للأعف الأفضل»