لقد أتيحت لي يوماً فرصة اللقاء بإحدى الشخصيات الإعلامية الكوسوفية، تدير مؤسسة كبيرة للصحافة، وكانت مناسبة ثمينة للاطلاع من خلالها على أوضاع هذه الدولة الفتية، التي لا نعرفها، في الغالب، سوى من شبكات الإعلام. لقد تفاجأت كثيراً بما سمعته، إذ كنت أعتقد أن كوسوفو قد شقت طريقها نحو الدولة الموعودة، التي ناضل الكوسوفيون طويلاً من أجلها. أوضح لي محدثي بأن بيئة ومعطيات ما قبل الدولة مازالت هي الأصل في البلاد، وإن بناء المؤسسات لم يمض على النحو المتوقع، بل بعيداً عما توقعه الناس. على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، أشار محدثي إلى أن الظروف السائدة لا تزال سيئة في المجمل، ولم يتم تطوير مصادر دخل يُمكن الاعتماد عليها لتدبير أمور الدولة الفتية. الدعم الخارجي، وعلى الرغم من أهميته، لا يغطي الاحتياجات التمويلية للدولة، والعديد من المشاريع الطموحة التي تم الحديث عنها يوماً وضعت جانباً تحت وطأة المعطيات السائدة. الكثير من الشباب الكوسوفي قد غادر باتجاه أوروبا والولاياتالمتحدة، بحثاً عن الرزق، وأحياناً بحثاً عن وطن.. دول العالم الإسلامي تبدو متحمسة على الدوام لدعم الكوسوفيين، إلا أن دعمها لا يكفي لسد الاحتياجات الكبيرة والمتسعة باضطراد. وبعض هذه الدول لديها مشروعات استثمارية كبيرة وطموحة. وغالبيتها تخصص دعمها لمؤسسات خدمية عامة، بما في ذلك الصحة والتعليم. في المجمل، فإن كوسوفو، بعد نحو عقد على استقلالها، مازالت تعاني من وهن المؤسسات وضعف قاعدة التنمية. وما زال وعد الدولة بعيداً بالنسبة للكثير من الكوسوفيين. ومما قاله لي محدثي إن كوسوفو الدولة مازالت تعيش مرحلة إثبات الذات، أو إثبات الوجود، كدولة ذات سيادة، وإن معركتها الدبلوماسية لم تصل إلى خواتيمها بعد. في مقابل هذه الصورة القلقة، هناك إنجازات تحققت على الأرض، أهمها تكوين شبكة واسعة من مؤسسات المجتمع المدني، وتطور وسائل الإعلام، وافتتاح مؤسسات تعليمية كبيرة، وتواجد عدد وافر من المؤسسات الدولية، الرسمية والخاصة، وبناء قنوات اتصال ثابتة مع قوى المجتمع الدولي المختلفة، بما في ذلك عدد من الدول التي لم تعترف رسمياً بالدولة الكوسوفية. في المجمل: "نحن اليوم أفضل بكثير عما كنا عليه بالأمس، إلا أن التحديات مازالت قائمة". هذه هي خلاصة ما قالته الشخصية الكوسوفية. وكانت مجموعة المراقبة الدولية الخاصة بكوسوفو قد أنهت، في العاشر من أيلول سبتمبر 2012، مهام الإشراف على استقلال البلاد، الأمر الذي عني حصولها على سيادتها الكاملة. وقد تألفت هده المجموعة، واسمها الرسمي "مجموعة التوجيه حول كوسوفو"، من 23 دولة بالاتحاد الأوروبي، إلى جانب الولاياتالمتحدة وتركيا، واضطلعت بمراقبة الأوضاع في الإقليم منذ العام 2008. وكان فشل مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى قرار ينص على منح كوسوفو حق تقرير المصير، وإعلان الإقليم الاستقلال من جانب واحد يوم 17 شباط فبراير 2008، قد جعل لزاماً على دول العالم أن تتخذ قرار الاعتراف فردياً. وقبيل إعلان كوسوفو استقلالها، عزز الناتو قواته العاملة في الإقليم، ونشر كتيبة من 560 جندياً إيطالياً لتلحق ب16 ألف جندي للحلف في الإقليم. قبل ذلك، كانت حرب كوسوفو (1998 و1999) قد انتهت بسحب صربيا قواتها من الإقليم، لتحل محلها قوة دولية. وأجاز قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1244 الصادر في العام 1999 قيام الأممالمتحدة بتسهيل عملية سياسية تهدف إلى تحديد وضع كوسوفو المستقبلي. وبعد أربعة عشر شهراً من المفاوضات الشاقة والمكثفة مع كل من صربيا وقادة كوسوفو، قدم مارتي أهتيساري، رئيس فنلندا السابق ومبعوث الأممالمتحدة الخاص للإشراف على عملية وضع مستقبل كوسوفو، مقترحاته الخاصة بالتسوية النهائية للإقليم إلى مجلس الأمن الدولي، حيث نصت على منح كوسوفو "الاستقلال الخاضع للإشراف"، وتوفير الحماية القصوى للصرب والأقليات الأخرى، ومنح الاتحاد الأوروبي دوراً إشرافياً في كل ذلك. لقد أقر أهتيساري في نهاية المطاف بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية، وأنه لا بديل عن استقلال كوسوفو. إن المجتمع الدولي معني بإدامة التزاماته تجاه كوسوفو، الدولة الأوروبية الفتية، وتوسيع نطاق دعمه لها، ذلك أن استقرار هذه الدولة يعد ضرورة لا غنى عنها لاستقرار البلقان، واستتباعاً الأمن الأوروبي، بل والدولي أيضاً. وإن الإدارة الأميركية القادمة معنية بتأكيد هذه المقاربة، حتى في ضوء التحول المحتمل في خياراتها الخارجية.