يُشكّل انبعاث الأصوليات في النصف الثاني من القرن العشرين أهم التحديات التي تواجه حضارة العصر؛ من حيث كونها – في مجملها، وعلى اختلاف مرجعيتها – تعكس في صميم معناها إيديولوجيا نكوصية، تكفر بكل المنجزات التي اجترحتها الحضارة الغربية على مدى سبعة قرون. وخطورة هذه الأصوليات على حضارة العصر لا تتحدد في مآلاتها التي لا بد وأن تنتهي إلى الإرهاب فحسب، وإنما حتى في مسارها السلمي الموازي لمسيرتها العُنْفية. فإذا كانت الأصولية والإرهاب حراكا فكريا/سلوكيا متلازما، فإن هذا ليس مكمن الخطر الوحيد، إذ العودة – ولو سلميا – إلى التصورات العقلية القروسطية عن الإنسان والحياة يشكل كارثة مدمرة بكل المقاييس. إن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الذين يراقبون الأصولية بفتور، إذ لا يرون فيها كبيرَ خطرٍ، هم من الجاهلين بطبيعتها. للأصولية – أيا كانت؛ في كل دين، وفي كل مذهب – سمات وملامح تكشف عن حقيقة المشروع الأصولي المعادي للإنسان أصالة. وطبعا، لا يمكن مواجهة المد الأصولي ورَدّه إلى قمقمه إلا بفهمه أولا، ليس فقط من خلال ما يقوله صراحة، وإنما من خلال ما يقوله صراحة، وما يقوله ضمنا، وما يعكسه من سلوكيات تكشف عن نمط التفكير الأصولي. كل الأصوليات تتصور العالم ضدها؛ لأنها هي لا تتصور نفسها إلا على الضد من هذا العالم، كلها لا ترى العلاقة مع الآخر إلا علاقة صراع، «كل هذه الحركات تثير ضجة صاخبة حول عدوانية أعدائها ومؤامراتهم، وتعلن نفسها ضحية».. يذكر الباحث الإيرلندي فريد هاليداي في كتابه الجميل (ساعتان هزّتا العالم، 11 أيلول/سبتمبر2001: الأسباب والنتائج، ص45- ص48) الذي استعرض فيه مشكلة الأصولية والإرهاب من زوايا عديدة، أن الحركات الأصولية – الإسلامية وغير الإسلامية – هي حركات اجتماعية سياسية مشدودة إلى شروط المعاصرة، فلا يمكن فهمها إلا من خلال موقعها في العالم المعاصر. ويقصد بذلك أنها استجابة لتحديات العصر، العصر الذي لم يستطع الأصولي التلاؤم معه. ومن هنا، فهي مشروطة بالمعاصرة، حتى وإن كانت تقف على التضاد منها. والأهم أنه يذكر أربعا من أوضح وأعمق سماتها. وهذه السمات الأربع – كما عرضها هاليداي - تستحق التوقف عندها؛ كيما نرى الطريقة التي يفكر بها العقل الأصولي على اختلاف مرجعياته الدينية، بحيث تسقط من خلال المقارنة الضمنية بين الأصوليات أوهام الخصوصية التي تطرحها الأصولية ابتداء: 1 أول هذه السمات "أن سائر هذه الحركات تسعى إلى أن تستمد مرجعيتها من الدعوة إلى العودة إلى النصوص المقدسة"، و"هذا هو معنى مصطلح الأصولية في صيغته الحرفية. ويرى أن هذه النصوص واضحة بما فيه الكفاية عند المسيحيين واليهود والمسلمين - الكتاب المقدس، التوراة والتلمود، القرآن والحديث والفقه، أو النصوص المقدسة -. وبالنسبة إلى الهندوس الذين يفتقرون إلى نص كهذا، بل وحتى إلى إله توحيدي، كانت المهمة أصعب، لكنها الآن في متناول اليد: ما يجري في الهندوسية هو إصلاح يهدف إلى جعلها أقرب إلى الأديان التوحيدية: إله واحد هو رام الذي أضيفت ذكورة إلى هويته الجنسية التي كانت خنثوية حتى الآن، ومجموعة من النصوص المقدسة، وأساطير رام، وعبادة جماعية، وإخضاع المرأة بوصفه جزءا أساسيا من المفهوم التوحيدي للدين الحق". وطبعا، هذه الأصول المقدسة التي تطالب الأصولية بالعودة إليها تحاجج بها الأديان الأخرى كافة، زاعمة أنها – وحدها – التي تمتلك "الأساس لتحديد الحياة الصالحة، وما له أوثق صلة بالظروف الحالية، وتوفر أيضا الأساس لتحديد شكل تنظيم المجتمع والدولة". وهذا هو المعنى الشمولي في الأصولية، كل أصولية، ويجب أن نتذكره دائما، فلا يمكن أن تقتنع بما دون الهيمنة الكاملة على كل مناحي الحياة. لكن، رغم الإحالة على النصوص المقدسة، فإن "ما يحدث في الممارسة هو أن مرجعيات معاصرة تقرأ هذه النصوص قراءة تخدم غايات معاصرة". وهكذا، تصبح المتون المقدس أداة للسيطرة، فالأصولي لا يخدم نصوصه المقدسة، وإنما يستخدمها لتحقيق سلطته في الواقع. 2 السمة الثانية، هي "الادعاء بأن بناء الدولة الكاملة للعالم المعاصر يمكن أن يُشخص فيها (في النصوص). فالأصوليون الإسلاميون ينسبون الكثير إلى الشريعة رغم الحقيقة الماثلة في أن الشريعة، بالمعنى المتعارف عليه للتعاليم الشرعية التي يتضمنها القرآن، لا تشكل إلا 80 آية من أصل 6000 آية، ولا تغطي إلا بضعة مواضيع للتشريع الممكن بشأنها". ثم يتحدث عن نظام الحكم الذي تطور للمدن العربية في القرن السابع، وعن عدم ملاءمته لهذا العصر، وأن مسألة صلاحيته لا تدعمها حقائق التاريخ؛ فضلا عن حقائق الواقع؛ "نظرا إلى أن ثلاثة من خلفاء النبي الكريم الراشدين الأربعة، ماتوا ميتة عنيفة لا دستورية". ما يعني – وفق مضمون كلامه - أن التأسيس لدولة (صالحة) على النموذج القديم، يخذله النموذج القديم ذاته، قبل أن يخذله اختلاف الشروط الموضوعية لكلا النموذجين. يدعم هاليداي هذا النموذج الإسلامي بنموذج آخر، إذ يشير إلى أن "الاستحضار اليهودي للماضي التوراتي لا يزيد وجاهة إلا قليلا: ممالك شاؤول وداود وسليمان دامت في مجملها 80 عاما قبل أن تخلي الطريق للحروب التي اندلعت بين إسرائيل ويهودا. وما هذه بالمرجعية التاريخية المطلوبة للادعاء بملكية الأرض ملكية أبدية، أو بالأساس الكافي الذي تُشرعن عليه دولة أعيد بناؤها بعد ما يربو على ألفي عام". وهكذا، فالأطروحة الأصولية ليس خللها ناتجا عن عدم ملاءمتها للواقع فحسب، بل هو أيضا خلل ناتج عن كونها – كمُتصوّر تاريخي – ليست إلا مجموعة أوهام عن التاريخ. 3 السمة الثالثة، "أنها برغم كل غيرية عالمها الظاهرة، تسعى إلى شيء واحد في المقام الأول، هو السلطة السياسية والاجتماعية". وهنا يذكر سعي اليهود الحراديم إلى السيطرة غير الواضحة على المجتمع والدولة. ثم يقول: "وفي حالة الديانات الثلاث الأخرى - المسيحية والإسلام والهندوسية – فإن هذه الدعوى السياسية أوضح بكثير: إنها ليست حركات هداية ولا حركات تجديد لاهوتي، بل حركات تهدف إلى الظفر بالسلطة من خلال الانتخابات أو القوة أو الانتفاضة، وإقامة الدولة المطلوبة. والأصولية بهذا المعنى وسيلة للوصول إلى السلطة السياسية والاحتفاظ بها بعد الوصول إليها: لهذا السبب قبل سواه، بالطبع، فإن الأمر يعنينا جميعا". 4 السمة الرابعة: اللاتسامح. يقول هاليداي: "يقودني هذا إلى البعد الأخير الذي تشترك به هذه الحركات، وهو لا تسامحها، وإلى حد بعيد طابعها المعادي للديمقراطية. فعلى الرغم من أنها تدعي الكلام باسم الشعب والسعي إلى تحقيق أهدافها بالوسائل الديمقراطية، فإنها بإيديولوجيتها وتنظيمها، جماعات سلطوية، ويمكن أن تكون دكتاتورية. إنها ترفض مقومات السياسة الديمقراطية، بما فيها التسامح والحقوق الفردية، وتدعي مرجعية ليست مستمدة من الشعب، بل مستمدة من إرادة الله المتأصلة في النص المقدس، والتي يفسرها قادة نصّبوا أنفسهم بأنفسهم، من الذكور حصرا". وهذا يعني أنها – من حيث تصورها لله والنص والعالم – معادية للديمقراطية أساسا، فأبجديات الوعي الديمقراطي غائبة، بل ومحاربة من الأبجدية الأولى: مساواة المرأة بالرجل، إلى المساواة المدنية بين المختلفين دينيا. إن هاليداي يقول بصراحة - بعد مقارنة بين أشهر الأصوليات الدينية في العالم: "وكلها تضمر، كجزء هام من أيديولوجيتها، عداء لمن لا يعتنقون دينها، والأهم من ذلك تقريبا أنها تكنُّ العداء لمن لا يشاطرونها توجهها الخاص من معتنقي دينها". وهذا يعني أن الإقصاء جزء من مكونها الأساس؛ مهما ادعت التسامح، فلا أصولية بلا إقصاء. فهي قد تظهر التسامح، ولكن "إلى جانب التظاهر بالتسامح، كثيرا ما تتضمن أدبياتها اعتداء وازدراء بحق المختلفين عنها، - أكانت كراهية الأصوليين المسيحيين لمواطنيهم العلمانيين، أو حملات الإسلامويين الشعواء على فساد الغرب و"مؤامرات" اليهود وجاهلية العالم المعاصر، أو تهجمات الأصوليين الهندوس الآن (صدر الكتاب قبل عقدين تقريبا) على المسلمين في الهند". أخيرا، كل الأصوليات تتصور العالم ضدها؛ لأنها هي لا تتصور نفسها إلا على الضد من هذا العالم، كلها لا ترى العلاقة مع الآخر إلا علاقة صراع، "كل هذه الحركات تثير ضجة صاخبة حول عدوانية أعدائها ومؤامراتهم، وتعلن نفسها ضحية".