يخطئ البعض عندما يعتقد أن المواطنة هي "حب الوطن" فقط، متجاهلاً أنّها مفهوم ذو مضمون ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي، فأول ما ظهرت كمفهوم أثناء ما يطلق عليها الحقبة الكلاسيكية، وهي ما تعرف بحقبة التنوير الحضاري في اليونان القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد والتي استمدت منها الحضارة الغربية الراهنة الكثير من مرجعياتها ومفاهيمها المتعلقة بالديمقراطية والفلسفة والعلوم في شتى مجالاتها وليس هناك تعارض بينها كمفهوم وسلوك وآلية تنظيم للحياة وبين الدين مهما كانت هويته أو عقيدته وتعاليمه فإذا نظرنا فكلاهما يسعيان إلى تحقيق غايات وأهداف عظيمة لمصلحة الإنسان. يأتي كتاب (المواطنة أو الطوفان: محاولة لتصويب مفهوم المواطنة نحو معانيه الفعلية) للمستشار والباحث د.فارس بن مطر الوقيان، في سياق اهتماماته ومشاريعه المعرفية بالهم الوطني والإنساني بشكل عام، وعن ذلك يقول الخبير الإقليمي في مجال المواطنة د.سيف العمري في تقديمه للكتاب: حين يكتب عن المواطنة مواطن عاش لحظة صعبة مر بها وطنه، فإن ما يكتبه سيكون نابعا من القلب، وحين يكتب عنها باحث سبر الكثير من النظريات التي حاول الباحثون توظيفها لفهم كيفية تشكل هذه الكلمة الفارقة في التاريخ الإنساني فإن ما يكتبه سيكون له قيمة كبيرة في قراءة الواقع. في هذا الكتاب يعلي د.الوقيان من قيمة المواطنة في ظل حالة من الفوضى التي تمر بها المجتمعات العربية، ويضعنا أمام مسارين، إما إرساء المواطنة بمتطلباتها أو هو الطوفان الذي سيجرف معه كل شيء من استقرار وتنمية وحضارة، ومن هذا المنطلق يدعو الخبير العماني سيف العمري المواطنين المستنيرين أن يحافظوا على ألا يقطع الحبل السري بأوطانهم مهما كان المحيط سلبيا أو إقصائيا وعدائيا، وعليهم الدفع بالتي هي أحسن فلا يواجهون الكراهية والانتقام بالمثل، ولا التمييز بالتمييز، كاشفا أن مجتمعا في ظل ذلك يحتاج إلى مشروع معرفي تنويري هدفه تصليح الاعوجاج وإغراق الظلم بالعدالة والتمييز بطلب المساواة والفئوية بإرادة التعايش المشترك والمواطنة الصالحة، والتعصب والإقصاء بتعميق المعرفة وتنويع أدوات الفهم، فبدونها لا يمكن بناء مجتمعات مدنية قابلة للحياة. يضم الكتاب الصادر عن دار الوراق "مسقط – عمان " 171 صفحة خصصها المؤلف لدراسة المواطنة ومفاهيمها، بدءا من تاريخها وانطلاقتها مرورا ببداية تجسدها وانتشارها الجغرافي، وذلك عبر فصول تصدرها المواطنة ومفاهيمها مرورا بالمواطنة والجنسية والمواطنة والدين والعولمة وليس إنتهاءً المواطنة الإقليمية والجندر. ويعترف المؤلف بأن هذه المحاولة المتواضعة عن المواطنة تختلف عن سابقاتها من مؤلفات وأبحاث بسبب دوافعها ومبررات التفكير والاستبصار بها حتى تكون في متناول العامة قبل النخبة، مضيفاً: "في كل المشاريع المعرفية السابقة كان الهم الوطني والإنساني العام يقع في صلب اهتماماتي وانشغالاتي يؤثر بي وتستفزني للكتابة والتأليف، لا لشيء سوى إزاحة الستار عن مفهوم ملتبس وكشف الغطاء عن قضية تتطلب وعي وتصويب وقرار، ويضيف أنها المرة الأولى التي يكتب بها ودوافع التأليف ذات خصوصية محضة متعلقة بذاته محاولة منه الانطلاق بها من الخاص إلى العام خلافا لما جرت عليه العادة، فالمعاناة والتجارب الاستثنائية التي مر بها في سنوات قليلة شكلت نموذجا لما قد تمر شرائح واسعة من البشر، ومبرهنا إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يمضي في قناعاته الإنسانية والوطنية بشكل إيجابي في وسط سلبي يستهدفه بشراسة من أجل تغيير قناعاته وانتزاع تلك المشاعر الإيجابية منه تجاه وطنه ومجتمعه واهتماماته المعرفية". وجاء الكتاب ليبرهن أنّ المواطنة ليست عقيدة دينية أو ايديولوجيا سياسية تفرض نفسها كبديل قسري لهويات وأديان راسخة في المجتمعات الإنسانية، بل هي سابقة للأديان وتعبر عن نفسها في جملة من المفاهيم والآليات والوسائل الهادفة لتحقيق الوئام والسلام والتعايش الوطني والإنساني ونبذ الصراعات والتحرر من التمييز والكراهية بين الشعوب والثقافات إنما هي مشروع للتفكير بالمصلحة العامة وتكريس قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، مشدداً على أنّ مطلب المواطنة يتكئ على عمودين أساسيين أولهما الركيزة السياسية وهي التي تفسر المواطنة بتعريف مواطنيها بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات وثانيهما الركيزة القانونية، حيث تعتبر المواطنة بمثابة منظومة تشريعات وقوانين تنظم حياة وشؤون ذلك المجتمع.