حذر المفكر والاكاديمي الكويتي د فارس مطر الوقيان من ارتهان البعض إلى حصيلته القرائية واعتمادها كأساس يسير على هداها وكمُسلمات مطلقة حيث يقع بالمغلوط، فالقراءة كما يصفها الوقيان هي إعادة فهم وإنتاج لأفكار مطروحة قادمة من الآخر، ربما نتفق فيها وقد لانتفق لمسوغات عديدة ذات صلة بالمنطق، ويبدي الوقيان حزنه قائلا: إن التكنولوجيا الحديثة بقدر ما كفلت لنا سهولة الحصول على المعلومة الهاربة من مقص الرقيب، بقدر ما أوقعتنا في مطب مصداقيتها ودقتها، كما أشاد بتوجه بلدان الخليج في الآونة الأخيرة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية في اتباعها سياسات ابتعاث خارجية تتسم بالتنوع في التخصصات العلمية على خلاف حقولها وأيضا التنوع في اختيار الدولة المبتعث لها الطالب كي تكون هناك خبرات متراكمة مختلفة تتفق مع مقولة الاستثمار في الرأس المال البشري الذي تقوم عليه التنمية وتنهض الأمم. د. فارس الوقيان: لا أتوقف عن طرح التساؤلات العملاقة المتعلقة بأمتي العربية والإسلامية * مالكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته ؟ - هناك مقولة رائعة ل غريغوري يقول فيها " ليس الاكتشاف سوى التقاء الصدفة بعقل متنبه وجاهر"، ربما تتوافق بشكل كبير مع موقف مررت به حين كنت طالبا بالمرحلة الثانوية في بحر عقد الثمانينات من القرن الفائت، إذ ذهبت للبقال المقابل لبيتنا فأدهشتني ملامح الحزن والتذمر واضحة المعالم على وجه ابن البقال فسألته: مابك ولماذا أنت حزين لهذه الدرجة غير المعتادة ؟، فأجابني: لقد فاتني امتحان الفلسفة بالأمس ولم أغادر لبلدي مما يعني فشلي في الحصول على الشهادة الثانوية للمرة الثالثة وقررت مؤخرا طرق أبواب التجارة بدلا من العلم!، وسألته ما هذا الكتاب المدفون بأصابع الشكولاتة والبسكويت أمامك؟ فقال: هذا كتاب الفلسفة النحس والملعون، سبب حزني وانتكاستي أود رميه بالشارع، فقلت له بدلا من رميه سأدفع لك ثمنه وأعطني إياه، لدي شغف بالقراءة والاطلاع لاسيما وأنني لا أعرف أصلا معنى فلسفة ولم أطرق بابها يوما من الأيام، وقد كان ذلك الكتاب تحت عنوان " قصة الفلسفة" ل ول ديورانت ومنذ ذلك العام 1985 وحتى الوقت الراهن لم يفارقني ذلك الكتاب في حلي وترحالي، لسببين رئيسيين الأول: لأنه الكتاب الأول الذي اقتنيته ويشكل جزءا من ذكرياتي وتاريخ القراءة لدي وثانيا للقيمة العلمية والمعرفية للكتاب فهو يسرد تاريخ الفلسفة على مراحل تاريخية ومعرفية كما أن أسلوبه سهل ولا يخلو من الإثارة والتشويق. * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع به ؟ - لا أنكر بأن ذلك الكتاب قد ساهم بشكل كبير في تكويني المعرفي والثقافي لا سيما في بداياته الجنينية لكنه ذلك النوع من التشكيل الواعي والمدرك، فعن طريق اطلاعي السريع والخاطف لمحتوى الكتاب وفصوله الثرية بالأفكار والمعارف إضافة للرموز الفكرية والفلسفية التي أنتجت تلك الأفكار والنظريات، فهمت الأساس الذي بنى عليه الغرب حضارته الكونية الراهنة، وعن طريق هذا الأساس المعرفي نستطيع الإجابة على تساؤلات فكروية عملاقة مثل: كيف يفكر الآخر الغربي؟ وكيف وصل لحضارته في العصر الحديث والراهن؟ لأنه مثلما نعرف، فإن أي حضارة مهما كانت، هي نتاج لتراكم معرفي وثقافي وديني وتاريخي، اختزلته في واقعها المعاش كخارطة طريق يقودها للتفوق في هذا السباق الحضاري بين الأمم والشعوب. ميزة ذلك المؤلف، شموليته التي تناولت كافة الحقب التاريخية منذ الإغريق وحتى العهد المعاصر، هذا من الناحية التاريخية، كما قسمت موضوعاته المختلفة لتطال حياة أهم الرموز الفكرية والفلسفية باهتماماتهم وكتبهم المتنوعة، فلا يخلو مجال من مجالات الحياة إلا وتناولوه تشخيصا وتنقيبا وتفكيكا مما يعطي القارئ قاعدة معرفية ثرية، ومع تلك الإيجابيات التي يحتويها الكتاب، لابد للقارئ أن يخضع الأفكار الواردة فيه لعملية "فلترة" عميقة تتسم بالوعي الموضوعي المدرك لكينونته وهويته ومرجعيته الثقافية الخاصة، فأنا لست مع الحرية المطلقة ذات الطابع العشوائي غير المنضبط التي تجعل من الإنسان المتلقي والمرسل إليه مجرد أداة للمرسل أي الكاتب، كما أنني لست من نوعية البشر الغارق في الآليات الايديولوجية الدوغمائية الزاخرة بالأحكام المسبقة وبثنائيات الخير والشر والحب والكراهية التي لا تتضمنها تدرجات ومناطق وسطى. * ما مدى استمرار تأثيره ؟ - صحيح أن تأثير هذا الكتاب قد ظل مستمرا لفترة طويلة من الزمن، لأن كل مرحلة عمرية يحكمها النضج المعرفي الخاص بها، ففي كل مرة تصبح قراءتي للكتاب مغايرة للمرحلة التي سبقتها، لكنني في كل المراحل، لا أتوقف عن طرح التساؤلات العملاقة المتعلقة بأمتي العربية والإسلامية كتلك مثل: لماذا تفوق الغرب علينا بينما تقهقرنا رغم ما نمتلكه من إرث معرفي وثقافي هائل عن طريق ديننا وعلومنا وتجاربنا على خلاف مجالاتها؟ ثم لماذا لم نستنبط من ذلك المخزون الهائل والمستنير ما يجعلنا نتحد ونتثقف ونتعايش مع بعضنا بعض كي نبرهن للعالم بأن العرب والمسلمين ليسوا ظاهرة سكونية في عالم متغير؟، لاشك أن تأثير الكتاب كبير لكنه ذلك التأثير الذي يستوطن عقل الإنسان المنتمي وليس اللامنتمي، عقل الإنسان المنشغل بهموم أمته ودولها وأولئك الناس البشر الذين يعيشون على أراضيها ونتيجة لكل ذلك لابد من القول بأن قراءاتنا ليس مجرد شغل أوقات الفراغ وللحصول على لحظات ممتعة ومسلية مع كتاب، بل ينبغي أن تكون أهم وأبلغ من ذلك، فهي جزء من حياته وانشغالاته اليومية، بل هي كالأكل والشرب والنوم دون مبالغة فهل يمكننا تخيل الحياة المعاصرة دون علم ومعرفة وكتابة وقراءة وجدل ثقافي ومعرفي؟ بالتأكيد لا، كما ينبغي أن لا نستهين بالتأثير العميق الذي تحدثه القراءة في تشكيل البنية الثقافية والمعرفية للفرد ومن ثم انعكاساتها على شخصيته وسلوكه وطريقته بالتفكير ناهيك عن امتداد هذا التأثير على محيطه الأسري والمجتمعي والرسمي في الدولة، ولهذه الدوافع ربما تسعى الكثير من الدول تعزيز بعثاتها التعليمية في البلدان ذات القامة الكبرى في العلم والمعرفة وهذا ما تسعى له بلدان الخليج في الآونة الأخيرة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية حين اتبعت سياسات ابتعاث خارجية تتسم بالتنوع في التخصصات العلمية على خلاف حقولها وأيضا التنوع في اختيار الدولة المبتعث لها الطالب كي تكون هناك خبرات متراكمة مختلفة تتفق مع مقولة الاستثمار في الرأس المال البشري الذي تقوم عليه التنمية ونهوض الأمم والدول. * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر ؟ - بكل تأكيد، نستطيع اعتبار القراءة من الدوافع الرئيسية للتغيير في الحاضر كما كانت عليه في الماضي أيضا والمستقبل، فلا وسيلة تعلو عليها إذا ما أردنا الانتقال لمرحلة حضارية ونهضوية متجددة تحفظ لأنفسنا ولبلداننا استقرارها واستنارتها ومواكبتها للحضارة الكونية، لكن علينا أن نتوقف قليلا عند محطة مهمة في هذا المقام ونطرح التساؤلات ونزيح الستار عن بعض الالتباسات، فالقراءة لابد وأن تكون نوعية ودقيقة وليست عشوائية بشأن ما نختاره من الكتب والكتّاب والمجالات، فمثلما هناك قراءة ايجابية خلاقة هناك قراءة سلبية رديئة وهي تلك التي لايحسن بها الفرد اختيار جليسه من الكتب التي ربما تربكه وتشوه مسار أفكاره، وغير ذلك ثمة نقطة مهمة مرتبطة بالبيئة النفسية والفكرية للفرد أيا كانت هويته وفئته العمرية، فالبعض يأخذ حصيلة قراءته كأساس يسير على هداه وكمُسلمات مطلقة وهنا يقع بالمغلوط فالقراءة هي إعادة فهم وإنتاج لأفكار مطروحة قادمة من الآخر ربما نتفق فيها وقد لانتفق لمسوغات عديدة ذات صلة بالمنطق الذي يحكمنا كأفراد وبالثقافة التي نشأنا عليها وتلقيناها منذ الصغر وهذا هو أجمل مافي القراءة، كل يرى الأشياء وفقا لمرجعيته الذاتية وفرادتها في خاصية التنوع التي تحكمها. كما تكمن صعوبات القراءة في السنوات الأخيرة بمصادرها المتنوعة لحد الحيرة، بالإضافة إلى الكتب الورقية المطبوعة هناك ترسانة هائلة من المصادر التي توفرها الطفرة الناتجة عن التكنولوجيا الحديثة، من انترنت إلى وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة، ولايخفى على أحد بأن هذه الكثافة من المعلومات غير المنضبطة علميا ومنهجيا تحتوي على كم كبير من المغالطات والمعلومات غير الدقيقة، والامر المحزن إن التكنولوجيا الحديثة بقدر ما كفلت لنا سهولة الحصول على المعلومة الهاربة من مقص الرقيب، بقدر ما أوقعتنا في مطب مصداقيتها ودقتها وما احوجنا بهذا المأزق الإيجابي السلبي أن نخصص دورات تدريبية أو مناهج متخصصة في مدارسنا تساعد الطالب ولا نقول توجهه وتفرض رقابة عليه (كي لاتنسحب عليه مقولة الانفجار الذي يولد الكبت). وإذا أخذنا هذه المكونات مجتمعة عن نوعية ومصدر وكيفية القراءة بعين الاعتبار في فضائنا الأهلي الخاص والرسمي العام لاشك بأن القراءة ستغدو دافعا مؤثرا إلى حد كبير في التغيير الإيجابي الذي ينعكس على أمن دولتنا واستقرار مجتمعنا وتنميتها بكافة الحقول والمجالات لاسيما ونحن نحتاج بشكل عملاق تكثيف انتاجنا العلمي والمعرفي بمفهوم المواطنة الفاعلة والصالحة التي تعتبر اليوم حجر أساس لتحقيق التعايش المجتمعي وإدارة الدول بشكل يجنبها الصراعات الأهلية، وبالمناسبة فقد كرست جهدي المعرفي في الآونة الأخيرة لهذا المفهوم لسد الفراغ الحاصل في المكتبة الوطنية في الكويت ومنطقة الخليج والمكتبة العربية.