تقف الثقافة العربية اليوم أمام فكرة الاختلاف او مفهوم الاختلاف على نحو فيه مجموعة من الإشكالات، رغم ما يعني هذا المفهوم من قيمة مهمة في مستقبل تفاهماتها مع الذات والآخر. فالحروب المشتعلة بين الطوائف المسلمة او خارجها، تستدعي مقاربات وإعادة قراءة لفكرة الاختلاف. نحن أمام عالم يولد من الألفية الثالثة التي تبدو فيه الفوارق الحضارية غير قابلة للتسويات كما في السابق، ولعل من أسباب ونتائج تلك الفوارق، الصراعات الشرق أوسطية. وفي ظلال الحروب الأهلية نشهد انبثاق حياة جديدة تستدعي على نحو ملح معرفة فلسفة الاختلاف، كمنظومة ونسق يستحقان المعالجة وفق رؤى جديدة، وأكثر سبراً وشجاعة لأوضاع استثنائية مثل التي تعيشها شعوب المنطقة. فهناك نظم الاتصالات الحديثة حيث دخل عبرها الآخر المغاير فكراً وأسلوب حياة، الى صلب يوميات الفرد العادي في عالمنا، في حين كان في السابق يأتي على نحو ترديدات وتمثلات واجتهادات تبقى بعيدة. لعل الزخم الجديد لطرق تدفق المعلومات وتداخلها، اختصر أزمنة الإنسان الحديث، وأدخله في أكوان متضاربة من الاختلاف الثقافي. وفي الظن أن الموروث اللاعقلاني لفكرة الهوية والثوابت القومية والوطنية الذي تبنته الثقافة العربية العلمانية، جعل فكرة التأكيد على المسلّمات وتحريم مناقشتها، أقرب إلى لاهوت سرعان ما استبدل الفرع بالأصل، الأمر الذي سهّل على الإسلام السياسي الحلول في الفراغ الذي خلفته النهايات القيامية للاوطان، تلك الأوطان التي صاغتها الدكتاتوريات على مقاساتها: دول علمانية ولكنها مفرغة من المنطق العقلاني. والحق ان الحاضرات العربية التي ازدهرت في الستينات والسبعينات، كان جزءاً من ازدهارها الحضاري، يقوم على الإبقاء على ما شكلته خارطة تقاسم النفوذ الغربي من تضاريس سياسية، ممالك قديمة تابعة، وجمهوريات للموز ثائرة، ولا يعني هذا ان مؤامرة عالمية صاغت تلك النماذج، بل إن تحرك الخريطة الاقتصادية والمجتمعية في ظل وضع عالمي ساعد على صناعة تلك البنى المنخورة من الداخل. قامت السلطات الثقافية بمختلف صيغها، المعارضة والمشاركة في النفوذ، على مثلنة النموذج القمعي الكامن في تكويناتها القروسطية، وتسيير جماهيرها وفق ترميزاته وشيفراته، وتربية أجياله على طرق تفكير ترفض التعدد والتنوع، فغدت فكرة تجاوز هذا النمط من التفكير، أقرب إلى حرث في ارض صخرية. لعل تراخي القبضة الحديدية للدولة التي حكمتها المخابرات والقمع البوليسي، دفع المجتمعات إلى حروب ونزاعات وخراب اقتصادي، كما أدى إلى اقتلاعات وهجرات من التخوم البعيدة في الأرياف والبوادي العربية، إلى بلدان الغرب. صدمة الهجرة حولت فكرة الاختلاف الثقافي، الى معضلة كبيرة بين المهاجرين والمجتمعات التي استقبلتهم. لعل التفسير المنطقي الذي ينبثق منه سؤال الاختلاف والخلاف، يقود إلى مجموعة من الأسئلة التي اسقطها التاريخ الثقافي العربي من حساباته، وفي مقدمتها الكيفية التي جرى فيها حسم الصراعات بين الأقليات والأكثريات، والسلطة الأعلى وسلطات الظل بما فيها السلطة الدينية. ولا يمكن فهم جدلية الاختلاف والتشابه في المنظومة الثقافية من دون إدراك المعاني المتبدلة للمركز والهامش في تبادل المواقع الجغرافية والاجتماعية. ولعل التطهير العرقي والديني الذي يزداد سعاراً في الكواليس الخلفية للعالم الإسلامي، وتباد شعوب ومجموعات بكاملها لا لذنب ارتكبته، بل لأن هناك من يتخيلها تشكل تلويثاً لطهارة هويته وانتسابه العقائدي والعرقي، كان في السابق يجري على نحو خفي ولكنه يتستر بغطاء الوطنية والحرب الدائرة والمؤجلة مع اسرائيل. سببت تلك الحروب فناء كثر من البشر، ولكنها ايضا حملت مشكلات التهجير المنظم الى قلب العالم الحديث الذي راهن على فلسفة الاختلاف. بيد أن العواصم الكوزموبولتية التي قصدتها تلك الشعوب المقتلعة، بدت لها فكرة الاختلاف اليوم، وكأنها تهدد وجودها، بل تهدد تصوراتها عن نفسها. كل ثقافة ما بعد الحداثة في الغرب قامت على التموضع داخل مفهوم الاختلاف، فقد كانت تلك الأفكار قادرة على إزاحة أو زعزعة المثالية الهيغيلية، أما المادية الماركسية فقد قامت بقلب معادلة الوعي والمادة، ولم تستطع تفتيت بنيان الهيغلية الراسخ حول الوحدة العقلانية الكلانية التي تتشكل من جدلية التناقضات. ثمرة فكر ما بعد الحداثة الغربي تناوشه اتجاهان شجر الجدل بينهما على المستوى السياسي والفكري وتمثلا في بقايا النيتشوية التشاؤمية التي يبدو ليوتار خير ناطق باسمها، وبقايا مدرسة فرانكفورت الذي يمثلها هابرماس: الأول يرى الحرب مصيراً لكل الاختلافات، والثاني يرى العكس، فالتواصل والتفاهم هو الحل لكل مشكلات البشرية. الأثنان ينظران إلى عالم اليوم على أن معادلته تقوم على الاختلاف، ولكن ليوتار الذي يعتمد نفي اليقينيات أو ما يسميها "السرديات الكبرى"، يقرأ خارطة كل التسويات على ما كانت عليه من نتائج سببتها الحروب والارتطامات الكبرى، في حين يرى هابرماس ان التواصل والتفاهم هما اللذان يحكمان مبدأ الاختلاف. هابرماس بقي وفيا لمنابع الهيغلية الماركسية التي تطمح الى مثالية تكمن في العقل الإنساني. شغلت فكرة الاختلاف كل الفلاسفة المتأخرين وكانت المبحث الأهم في كل الميادين : الأنا والآخر، بما يجمعهما وما يفرقهما وبما يشكل فضاءات تلك الصلة الملتبسة بين المحورين، وبما هو أبعد منهما الى ما يمكن أن يصبح مصدر السؤال عن الذات في حوارها المتواصل مع ذاتها وما يحيط بها. فالذات الكلية الاكتمال لا تفهم نفسها بما تملك من قدرات وما تنطوي عليه من نقاط ضعف وقوة، وعلى هذا هي تنظر الى الآخر باعتباره الضد او الحليف، لأنها تفتقد جدلية التحليل المفهومي، ولا تساعدها ظروف نشأتها سوى على التقوقع داخل اعتقادات جاهزة : الطائفة، الحزب، القومية، الوطنية، الأمة. كل الأفكار والفلسفات المؤثرة في البشرية قامت على تفكيك البنى المركزية للاعتقادات الجامدة، وهي التي قادت البشرية إلى إنجازاتها على مستوى الأدب والفن والسياسية والاقتصاد وإدارة الحياة الاجتماعية. إنها ثقافة البحث عن المعنى الآخر، المعنى " الصامت" في كل ظاهرة، حسب تعبير دريدا. الفكر الغربي هو نتاج تطورات حقب متوالية من الإنجازات البشرية على كل الصعد، وفي مقدمتها الثقافة القانونية، والدساتير التي غيرت حقوق الفرد وحولته من ثقافة القطيع إلى ثقافة الفرد المبدع والمبتكر لخياراته. في حين بقي الفكر العربي يتحرك ضمن منظومة ثقافية متلقية من حضارة لا تخصها. لقد أهملت العلمانية العربية التي قادت السلطات والنخب الاجتماعية المثقفة، الشرخ العميق بينها وبين علمانية الغرب، وبقيت خيارات فاعليها الثقافين انتقائية، وها هي اليوم تشهد سقوطا مدويا لكل ما صاغته عن أفكار وأخذت به من فلسفات عن التقدم والحرية والكرامة والوطنية. بدا الحل الحالي يكمن في مغادرة هذه البقعة الجحيمية، العالم العربي والإسلامي، إلى تلك التخوم المجهولة التي تتشكل منها أقاليم حديثة، لغات حديثة، وصلات عبر فضاءات ضوئية. فالعالم اليوم أصبح المنفى الأكبر لكل الشعوب، المتطورة منها والمتأخرة، والثقافة المهاجرة بشياطينها وملائكتها، تقيم ممالك منافيها على أرض البشر، أما عالمنا الصغير أو ما يسمى الشرق الأوسط فهو في فلك دوار، وربما سينتهي إلى دمار وانقراض، أو ربما سيطوي معه كل الأماكن التي يرحل إليها.