شكل 11 أيلول (سبتمبر) 2001 مرحلة حاسمة بالنسبة للفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (1929) الذي يعتبر آخر رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الكبار. ففي مناسبة تلقيه جائزة السلام الألمانية التي أقيمت في كنيسة باول في فرانكفورت تحدث هابرماس عن الذعر الذي خلفته عمليات الحادي عشر من أيلول الإرهابية في نيويورك وانزعاجه من التسطيح الثقافي الذي سببه انتشار وسائل الاعلام وانحطاط الثقافة النقدية التي تحولت الى ثرثرة عاطفية منفلتة، ودعا الى ضرورة طرح قضايا ذات أهمية كبيرة ترتبط «بالشعور الأخلاقي» الذي يمكن التعبير عنه في لغة دينية. ويعني هابرماس بذلك أنه حتى في المجتمعات العلمانية هناك حاجة الى الإرث الديني. وفي كتاباته اللاحقة شدد هابرماس على انهيار القيم الدينية وضياع التقاليد ذات القيمة الكبيرة خصوصاً ما يتصل بصراع الثقافات الذي يمكن ترجمته بسوء الفهم السائد بين الشرق والغرب والذي يرجعه الى واقع هو أن الغرب أكبر مستفيد من الحداثة في ايجابياتها وسلبياتها المادية والسياسية، في الوقت الذي ما زال الشرق يعيش أنظمة استبدادية وهو في مستوى تعليمي ضعيف، فهو مبعد عن الأزمنة الحديثة، ولذلك لا يمكنه إلا أن يشعر بخيبة أمل والتي تحولت اليوم الى غضب وتمرد وذلك لتجاهل الغرب دول العالم وتقديم نفسه كثقافة مادية استهلاكية مبتذلة، وبذلك يفقد الغرب صدقيته. وعلى رغم ان هابرماس يعتبر ان الدين مسألة خاصة بالفرد، فإنه يحاول تشكيل علاقة بين العلم والدين وانعكاس تلك العلاقة على الممارسة السياسية. وبسبب الإقصاء والتهميش للفكر الديني وضع هابرماس نظرية للمجتمع ما بعد العلماني التي يتلمس فيه استمرارية الوعي الديني في محيط يستمر بعلمنة نفسه وضرورة مشاركته في الفكر الديموقراطي المتنور. فهو يدعو الى تصالح بين العقل والدين، فالدين وحده هو الذي يمكنه ان يساعد الحداثة المتعثرة وإخراجها من المأزق الذي أوقعت نفسها فيه. كما يدعو الى «لغة دينية» وتصور جديد عن العالم للتعامل مع المؤمنين، لأن البعض كان قد فقد الأمل، حتى أولئك الذين فقدوا العلاقة بالدين من العلمانيين وغيرهم، وبعد أن أصبح الدين مصدر خطر أمني بعد ان ترك الإرهاب بصماته على الجميع وفي كل مكان في العالم. ان يأس هابرماس لحالة انهيار الدين وضياع المثل التقليدية جعله محبطاً، فليس عالم الأشياء المادية فقط ما يمنح الإنسان السعادة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الأديان هي فعلاً حامية للمثل الأخلاقية؟ إن محاولة هابرماس إعادة بناء الدين ووضعه في سياق المجال العام وربطه بالتطور المجتمعي والعقل، هي تحقيق ما تتطلبه المجتمعات اليوم وهو تحقيق الانسجام بين الأيديولوجيات المتصارعة والمعتقدات الدينية المتنافسة، التي يجب عليها ان تتحاور ولا تتصارع، وهو ما يعود بالخير على الجميع. ففي ظل السلام والحوار يمكن للأديان التفكير في حل القضايا الأساسية التي تواجه المجتمعات ومنها قضية حياة الانسان على الأرض. إن الاهتمام بالتقاليد والقيم وتطويرها تقود الى تحقيق مصالحة حقيقية بين القيم والتقاليد الدينية وبين قيم الحداثة من طريق قراءة جديدة ونقدية للنصوص الدينية. وإن المحافظة على الحريات الأخلاقية تتطلب علمنة السلطة السياسية ومنع تعميم رؤية السياسي العلمانية على العالم، وفي هذا الوقت، اعتبار التسامح هو أساس الثقافة الديموقراطية. فهو يصب في اتجاهين دائماً، الأول ينبغي على المؤمنين ان يتسامحوا إزاء المعتقدات الأخرى، بما في ذلك قناعات وعقائد غير المؤمنين، والثاني ان من واجب العلمانيين وغير المتدينين ان يقدروا قناعات مواطنيهم الآخرين من المؤمنين الذين يدفعهم دافع ديني. يقول هابرماس: كل الأديان هي عاقلة بالضرورة إلا من فقد توازنه وتخلى عن ايمانه بالعقل وفرض منطق القوة والقسر على الآخرين. ان سلطة العلم على الدين لا تنتج تناقضاً أو عيباً، حتى لو كانت تقوم على أخلاق غير دينية في الأصل. إن أفكار هابرماس تنتصر للعقل دوماً في مواجهة الأسطورة والخرافة والقدر الأعمى التي يجب الانتصار عليها، لأنها تمثل الشر، وحتى لا يعلو أي شيء فوق العقل أو يتعارض معه. هل يكشف فكر هابرماس السوسيولوجي عن نزعة لاهوتية؟ وهل أن هذه النزعة تعبر عن انعطافه دينية؟ هابرماس عالم اجتماع وفيلسوف تأملي علماني بامتياز. ولكن طرحه لمثل هذه الأفكار المثيرة عن الدين والمتدينين هي أفكار استثنائية ولا تعبر عن فكره الفلسفي وتحليله السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية. فهو ينطلق من خطر انتشار العنف والإرهاب في العالم وضرورة تجنب حرب بين الحضارات وكذلك نظرته العقلانية التي تنتصر للدين العاقل الذي يؤمن بالتسامح وينبذ العنف والإرهاب والاضطهاد باسم الدين. فالمتدين العاقل هو الانسان الذي يتخلى عن فرض القناعات الدينية وغير الدينية بالقوة على الآخرين أو انتزاع الإيمان منهم بقوة السلاح. يريد هابرماس من كل ذلك اتخاذ موقف عقلاني متسامح من الدين والمتدينين والقيام بخطوات عقلانية لتحييد الدين من طريق بذل جهود جماعية واعية لعقلنة الدين والسلوك الديني واخلاقياته وعدم احتكاره للمعرفة والاعتراف بدور العلم والتقنية والثقافات الأخرى في التقدم الاجتماعي، انطلاقاً من ان الدين، في الواقع، متجذر بالوعي الاجتماعي ومؤثر بطرائق العمل والتفكير والسلوك وليس من السهل نفيه وإلغاء دوره من المجتمع، لأنه أصبح جزءاً من القيم والمعايير والتقاليد، وبدلاً من ذلك يجب تأهيل دوره الاجتماعي في السياق العقلاني من طريق تبني وجهة النظر الأخرى المختلفة وإشاعة مبدأ التسامح وتأمين السلام الاجتماعي للجميع وأن نترك الذوات تتفاعل من طريق التواصل والتفاهم والحوار العقلاني بين الثقافات المختلفة والأديان المتعددة. ففي ظل الظروف المعقدة التي يشوبها الاقتتال على الهويات الدينية في عالم اليوم، على الوعي الديني العقلاني ان يتواصل ويتحاور مع الآخر المختلف وان يتفاهم لمعالجة أصل الخلاف والاختلاف والاحتكام الى سلطة العلوم التي تهيمن اليوم على كل معرفة في حياتنا المعاصرة والتعامل معها على أساس عقلاني رشيد. وغير ذلك سيقودنا الطريق الى رحلة مظلمة من الصراع والاحتراب بين الدين والعلم والفلسفة، بين العقل والنقل وبين الحداثة والخرافة، ذلك الصراع الذي خلف الحروب والمآسي والدمار. كما دعا هابرماس الى ان يتوجه الخطاب الاجتماعي في أوربا لمناقشة الدين في المجال العام فمن الممكن ان يحقق نتائج طيبة في الخطاب بين الدول الأوروبية وغيرها.