البسامي يتفقد الأمن الدبلوماسي    تنظيم جولة صادرات الخدمات السعودية إلى سلطنة عمان    اختتام برنامج FIFA للمدارس في مكة    365 ألف جولة رقابية وتوعوية    تأهل 44 طالبا لإبداع 2025    الأخضر يستأنف تدريباته استعدادًا لمواجهة عمان في نصف نهائي خليجي26    سلة الأحلام تنفرد بالصدارة    ارتفاع عدد الشهداء في الغارات الإسرائيلية على مخيم النصيرات إلى 8 شهداء    تمديد مبادرة إلغاء الغرامات والإعفاء من العقوبات المالية للمكلفين حتى 30 يونيو 2025    عملية قلب معقدة تنقذ حياة شاب مقيم في القصيم    هيئة الإذاعة والتلفزيون تبحث سبل تفعيل التعاون مع مجموعة الصين للإعلام    تعذّر بيع تذاكر نصف النهائي اليوم والطلبات تتجاوز ال130 ألفاً في خليجي 26    إشعار أصحاب المباني الآيلة للسقوط بحي الفاروق في جدة    اكتمال مغادرة الدفعة الثانية لضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة إلى بلدانهم    35 % ارتفاع عدد المعتمرين في الربع الثالث 2024    وزير الداخلية يبحث الموضوعات المشتركة مع سفير كازاخستان    إنفاذا لتوجيهات القيادة.. وصول التوأم الملتصق السوري "سيلين وإيلين" إلى الرياض    "سعود الطبية "تحصد اعتماد "سباهي" في خدمات الرعاية الصحية المنزلية بنسبة 94.73%    تأجيل نهائي خليجي 26    الحقيل يفتتح فعاليات الشارع الثقافي في الواجهة البحرية الشمالية بجازان    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تحتفي بقائد إنجازاتها معالي الدكتور عبدالله الربيش    «التجارة» للشركات: 20 يوماً متبقية على مهلة تعديل عقد التأسيس    الأمير سعود بن نهار يلتقي قائد القوات الخاصة لأمن الطرق بالطائف    موعد مباراة السعودية وعمان في نصف نهائي "خليجي 26"    قرار من رينارد بعد التأهل لنصف نهائي "خليجي 26"    "أمير الرياض" يطلع على جهود وأعمال الجمعية السعودية لحكام كرة القدم    من أعلام جازان.. الدكتورة بدرية بنت محمد أحمد البهكلي    "تعليم الطائف" يستعرض نظام الدعم الموحد لتحسين مستوى الخدمات بالمدارس    هل تعود موسكو لنشر الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى؟    المحتوى المحلي والمشتريات تعلن إضافة 122 منتجاً في القائمة الإلزامية    120 قتيلاً في مواجهات بين «قسد» وفصائل مسلحة شمال سورية    المملكة تعزي جمهورية كوريا إثر حادث تحطم طائرة ركاب في مطار موان الدولي    مستشفى أحد رفيدة ينفّذ حملة "لقاح الانفلونزا الموسمية"    "الهيئة العامة للإحصاء" تنشر إحصاءات الأمن الغذائي لعام 2023م    فنٌّ ينبض بالهوية.. ماجد حملي رحلة الإبداع بين التراث والحداث    179 قتيلا في تحطم طائرة كوريا الجنوبية    شرطة الرياض تضبط شخصين عبثا بوسائل السلامة في محطة انتظار نقل عام    «عزف بين التراث والمستقبل».. متحف طارق عبدالحكيم يحتفي بذكراه السنوية الأولى    "الرياض آرت" يُعلن مشاركة 30 فنانًا من 23 دولة في ملتقى طويق الدولي للنحت    من دفتر الأيام: مشوار في قصرغرناطة بأسبانيا    المملكة تعزز الأمان النووي والإشعاعي    واتساب تختبر مزايا ذكاء اصطناعي جديدة    تقدير دعم المملكة لقيم الاعتدال حول العالم    ضيوف "برنامج خادم الحرمين" يزورون مصنع الكسوة    وزير الدفاع يلتقي قائد الجيش اللبناني    "روشن" تضع حجر الأساس لمجتمع "المنار" في مكة المكرمة    خادم الحرمين يتلقى رسالة من الرئيس الروسي.. القيادة تعزي رئيس أذربيجان في ضحايا حادث الطائرة    في إطار الجهود المبذولة لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.. إطلاق فعالية «ليالي الفيلم الصيني»    طريقة عمل شيش طاووق مشوي بالفرن    ماسك يؤكد دعمه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف    «الفنيلة والسروال» والذوق العام    المطار.. عودة الكدادة !    شولتس: لا أنام إلا قليلاً رغم أني من محبي النوم لفترة طويلة    المنتدى السعودي للإعلام يطلق معسكرًا لتطوير الإعلام السعودي بالذكاء الاصطناعي    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيسة الهند في وفاة رئيس الوزراء السابق    "الإسلامية" تؤهل الأئمة والخطباء والدعاة في تايلند    إسرائيل تتمسك باستهداف المستشفيات    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصوليات والخيار الديمقراطي
نشر في الرياض يوم 10 - 11 - 2016

تحدثت في المقال السابق عن موقف "الأصولية الإصلاحية" من الديمقراطية، وعن كونها تسير بالمجتمعات نحو استبداد يبدأ ناعماً/غير مقصود، استبداد تفرضه مبادئ الأكثرية الديمقراطية التي من المتوقع أن تتنامى باطراد؛ بعدما تمسك الأكثرية العددية بالبقية الباقية من أدوات التوجيه والإرشاد، إلى أن يصل الأمر إلى الاستبداد التام، بل إلى الظلم والطغيان المتمثل في النظام الثيوقراطي الصريح الذي يُقصي جميع شركاء الدرب؛ بمبررات ادعاء الصواب السياسي المستمد من الصواب الديني.
الأصولية الناعمة التي تؤمن بفكرة التدرج التربوي والسياسي، والتي لا تُصرّح بهدفها النهائي المتمثل في إقامة دولة شمولية يُهيمن عليها رجال الدين. أما "الأصولية المتشددة" المتأثرة بسيد قطب فترفض فكرة التدرج أصلاً
هذا عن الأصولية الإصلاحية، الأصولية الناعمة التي تؤمن بفكرة التدرج التربوي والسياسي، والتي لا تُصرّح بهدفها النهائي المتمثل في إقامة دولة شمولية يُهيمن عليها رجال الدين. أما "الأصولية المتشددة" المتأثرة بسيد قطب فترفض فكرة التدرج أصلاً، وتطالب بالفرض القسري للدولة الإسلامية، وعن طريق الدولة، فرض نظام أخلاقي صارم. وبجوار هذه "الأصولية المتشددة"، نجد "الحداثة التكتيكية" التي تمتهن الاستخدام التلقائي للموضوعات المستحدثة لدفع البرنامج الأصولي إلى الأمام. ويرى دانيال برومبرغ أن "الحداثة التكتيكية" أداة خطابية يستخدمها الإصلاحيون لتأمين دعم المجموعات الاجتماعية -مثل الانتلجنسيا- التي لن تؤمن بالمشروع الأصولي إلا بتأكيده على مبادئ حقوق الإنسان ذات المصدر الحداثي.
كما يقول دانيال برومبرغ: "توضح حالة الجزائر بشكل جلي حدود الخطاب الأصولي وتناقضاته"، خاصة وأنها مثال طازج لا يزال ماثلاً في الوجدان العام للمتأسلمين، كما هو بالنسبة إلى خصومهم. عندما بدأت الإصلاحات السياسية الجزائرية عام 1988م، كان هناك انقسام واضح (ظاهري) بين زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ: عباس مدني، ونائبه: علي بلحاج. كان مدني يتبنّى الأطروحات التدريجية للأصولية الإصلاحية والحداثة التكتيكية في مسعى لتهدئة الانتلجنسيا المتنفذة من جهة، وكسب دعم الرئيس الإصلاحي من جهة أخرى. لكن، وفي الوقت نفسه، كان نائبه الراديكالي: علي بلحاج يطرح الإيديولوجيا الأصولية النضالية من أجل أن يكسب دعم فقراء المدن الذين هم قوام الجماهيري الأصولية في معظم الأحيان.
يُعَرّي دانيال برومبرغ مراوغة خطاب عباس مدني أكثر فأكثر؛ من خلال تصريحاته المتلاحقة، حيث يؤكد مدني ضرورة التعددية بقوله: "التعددية ضرورية للتطور السياسي لأننا لسنا ملائكة.. ولذلك يجب السماح بوجود تعددية"، ويقول أيضا، في محاولة لطمأنة الإسلاميين الآخرين الذين لا ينتمون إلى حزبه/جبهة الإنقاذ: "إننا مسلمون، لكننا لسنا الإسلام. ونحن لا نحتكر الدين. الديموقراطية.. تعني التعددية والاختيار والحرية".
طبعا، هذا كلام في غاية الانفتاح من زعيم أصولي يخوض غمار السياسية، فهل ثبت عليه؟. بعد مرور عدة أسابيع على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات البلدية والمحلية لعام 1990م، أسكرت نشوة النصر مدني؛ فتخلّى عن وعوده باحترام التعددية، بل شجب تصريح زميله الشيخ الإسلامي: نحناح عندما اقترح إنشاء "حلف إسلامي"، ورد عليه بأن على "كل من يريد الوحدة أن ينضم إلى صفوفنا لإنشاء دولة إسلامية"، ثم هاجم بعد ذلك البرلمان نفسه قائلاً في نوفمبر من السنة نفسها: "البرلمان ما هو إلا مجرد أداة للحوار، وقد أصبح بلا جدوى. إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لن تحترم إلا.. إرادة الشعب، وأعني بها إقامة دولة إسلامية هذا العام".
إذن، هذا هو الهدف المضمر: "إقامة دولة إسلامية". وقد لاحظ دانيال برومبرغ أن "مدني لم يطرح إنشاء دولة إسلامية قبل انتخابات 1990م". إن طرح: "الدولة الإسلامية" كهدف للعملية الديمقراطية، ليس خياراً ديمقراطياً. أي مُلمّ بعلم السياسية، يعرف يقيناً أن هذا الهدف المضمر يتعارض مع المبادئ الديمقراطية التي كان يتوسلها مدني من قبل؛ لخداع الحكومة (ممثلة في الرئيس الإصلاحي)، ولخداع المثقفين، ولخداع الجماهير المحايدة أصوليا. لم يتمالك مدني لسانه؛ فقَبْل أن يكتمل النصر، ويتحقق "التمكين"؛ تكشف الأصولية عن أنيابها، وتتنكر لكل وعودها وتعهداتها. يحدث هذا وهي خارج نطاق السلطة الفعلية؛ فكيف لو أمسكت بالسلطة فعلا، وتحكمت بأذرعها السيادية التي تحتكر وسائل العنف والإكراه؟!.
ليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أعمق دلالة وأشد وضوحاً. فقبل عدة أسابيع من المواجهة بين جبهة الإنقاذ والحكومة في ربيع 1991، أجرى مدني مقابلة مع مؤسسة إعلامية أمريكية؛ ليعرض الوجه الإيجابي/المتسامح/التعددي للجبهة الإسلامية للإنقاذ. لكن المقابلة كشفت عن الوجه المضمر للحراك الأصولي. لقد كشف مدني أن الانتخابات سوف تُحقّق هدف الثورة الجزائرية (ثورة الستينيات) الذي لم يتحقق إلى الآن، وهو "إقامة دولة إسلامية".
بل لقد انكشف الوجه الأصولي المتطرف أكثر؛ عندما سُئل مدني عن وضع الأقليات في الحكومة الإسلامية، إذ أجاب قائلا: "إن الإسلام دين يسعى وراء الحقيقة.. والحقيقة في هذا السياق لا يمكن قياسها حصرا بالأقلية والأكثرية. الحقيقة هي الحقيقة، سواء جاءت من الأقلية أو من الأكثرية [...] والإسلام يلزم حكومته باتباع الحقيقة".
هكذا يفكر زعيم الجبهة المرشحة لحكم الجزائر ديمقراطياً. ثمة حقيقة لا يعرفها ولا يُقدّرها إلا مدني وأصحابه، وهي لا تتقرر من خلال المعيار الديمقراطي: معيار الكثرة والقلة!. هكذا بصراحة!.
لكن، وأيا كان الأمر، يبقى السؤال الأهم، وهو عن الإسلام الذي يشير إليه مدني: هل هو إسلام جميع المسلمين، أم هو تفسير عباس مدني الخاص به؟. مثلا، قد يقرر مدني أن الإسلام يرى الحقيقة في هذا الأمر، ويقرر مفتي مصر أو مفتى عمان أو مفتي المملكة أن الإسلام يرى الحقيقة في أمر آخر. ثم من هو الذي يصنع أو يُكيّف الحقيقة؟، مَن الذي له الحق في أن يمنح الحقيقة حقيقتها/مشروعيتها؟. احتكار الإسلام، ثم احتكار الحقيقة التي نزعم أن الإسلام يُشرعنها، هو أصل التفكير الدكتاتوري الذي ينتظم كل تمظهرات السلوك الدكتاتوري.
لقد كان تصوّر جبهة الإنقاذ -كما يظهر من سلوكياتها القولية والفعلية- أنها تمتلك الصواب المطلق، وأن صواب الآخرين وصلاحهم يتحدد بدرجة قربهم منها. عندما أكّد مدني على أن "جبهة التحرير" ستكون موضع ترحاب "الجبهة الإسلامية" التي يقودها، حدّد ذلك بشرط وِصَائي صارخ (متى ما استعادت "أصالتها التاريخية"). واضح أن هذه وصائية وقحة، فضلا عن كون مصطلح "الأصالة" نفسه يحمل إلزاما -لا يلزم- بالماضوية التقليدية في أخلاقياتها المتزمتة التي تراها الجبهة الإسلامية "أصالة"، بينما قد يراها الآخرون عادات وتقاليد بالية.
لقد لاحظ ذلك دانيال برومبرغ، وأدرك أثر هذا التصور الأخلاقوي على التعددية السياسية التي هي شرط الديمقراطية الأول، فقال: "إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لا تستطيع، استناداً إلى رؤية أخلاقية للمجتمع الجزائري، أن تقدم أساسا لتشارك السلطة". وهكذا هي كل أصولية، فما يعده الآخرون خيارا، تعده الأصولية انحرافا، وطبعا، هي لا تستطيع التسامح مع الانحراف.
إن كل هذا يؤكد بوضح أن العقل الوصائي لا يستطيع -مهما حاول صادقا أو مخادعا- إلا أن يكون عقلا وصائيا. وبالتالي، سيكون استبداديا؛ إن كان في السلطة، وإرهابيا؛ إن كان خارج السلطة. لا تكفي الإعلانات والشعارات لتحقيق الوعود، بل ولا النوايا الطيبة إن وُجدت، إذ لا يتحقق الانتقال الديمقراطي الحقيقي إلا بالاشتغال النقدي/التفكيكي على مُكوّنات الوعي العام ومضمرات اللاشعور الجمعي؛ قبل الاشتغال المباشر على معطيات الواقع المباشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.