سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذرائعية السلوك الإرهابي (2- 2)
نشر في الرياض يوم 09 - 10 - 2008

لقد كانت حركة حماس تؤكد منذ بداياتها أنها حركة مقاومة فحسب، وأنها لا تسعى للسلطة، وأنها ضد عملية السلام جملة وتفصيلا. من يحسن الظن بالشعارات دون فحصها، كان يصدق حماس فيما تقول وتعلن، ويعتقد أنها تنطلق من مبادئ مثالية (= دينية) لا يمكنها التنازل عنها مهما كانت المخاوف والمطامع. لكن وبمجرد أن لاحت فرصة الدخول في التنافس الديمقراطي على السلطة، أظهرت الحركة شهوة حمقى للهيمنة ؛ غير لائقة بتاريخها، إذ قبلت الحكم من خلال وضعية مؤسساتية لا تعترف بها، ولا الأساس الذي قامت عليه. بل إنها فضحت نفسها، والإسلام الحركي من ورائها ؛ عندما انقلبت على الديمقراطية ذاتها، بكل وضوح وجلاء .
ليس الخلل في حماس كحركة، وإنما الخلل واقع في طبيعة الوعي التقليدي الحركي. فحماس، حتى لو أرادت - افتراضا - أن تفي بالعهود الديمقراطية التي قطعتها على نفسها، لم تستطع ؛ لأن بنية الوعي لديها بنية عنف وإرهاب. لا يهم ما كانت تقوله حماس من مقولات معسولة وهي تدلف إلى رحاب الممارسة الديمقراطية المدنية. المهم ما كان يشكل بنية وعيها العام. وهي من هذه الزاوية وعي مضاد للوعي الديمقراطي. فكان من الطبيعي أن تمتاز بسلوك ذرائعي مفضوح ؛ تنقلب عليه بمجرد أن تنشب أنيابها في جسد السلطة الوطنية ؛ لأنها بهذا تفي للمبدأ الخفي الذي يحدد - على نحو حاسم - موقفها من السلطة والنظام .
إذن، كانت حماس تقول شيئا وتفعل شيئا آخر، تؤكد أشياء، وهي تعلم - يقينا - أنها ستفعل نقيضها عما قريب. وكما هي حماس تمارس ذرائعيتها، كجزء من سلوكيات الحركات التقليدية العنفية، نجد أن الحزب الإيراني في لبنان يمارس السلوك ذاته. لقد كان هذا الحزب يؤكد - بكل وضوح وصراحة - أن سلاحه موجّه للخارج، أن سلاحه لصد العدوان الإسرائيلي، وأنه لن يكون في يوم من الأيام موجها لأي فريق داخل لبنان. كان هذا الحزب يُطمءئِن كل الفرقاء في لبنان على أن الهدف من سلاحه لا يتعدى الهدف المعلن. وكان يواجه القلق الذي ينتاب بعض قارئي المستقبل، بمزيد من التأكيدات تلو التأكيدات، في كل مناسبة يتم فيها الحديث عن سلاحه. وصدق المغفلون هذه الشعارات، واطمأن السذج إلى هذه التأكيدات ؛ حتى أفاقوا على احتلال الحزب لبيروت. ومن ثم، عرفوا - بعد فوات الأوان - أن منطق القوة والعنف الذي يحكم وعي الحركيات التقليدية، يفرض نفسه ؛ رغما عن كل ما قيل ويقال. فالأقوال والشعارات، عندما تخالف المنطق الفعلي للمضمون الحركي العنفي، فالغلبة في النهاية لهذا المضمون، ولا بواكي للأقوال!
وحركة طالبان، كانت هي الأخرى تمارس هذه الذرائعية، إذ كانت تحاول أن تبدو متماسكة - في الظاهر - مع مبادئها. لكنها، في النهاية كانت حركة عنف إرهابية، لها حظها الوافر من هذا الخداع. لقد كانت تعلن أشياء، وتتبرأ من أشياء، بينما واقعها كان على الضد من ذلك. بل لقد كان لديها استعداد لتسليم حليفها الإرهابي الكبير (ابن لادن) لأعدائها. لكنها لم تفعل، لا وفاء لمبادئ والتزامات، وإنما لأنها كانت تدرك أن هذا لن يعفيها من الحرب، وأن مصيرها إلى زوال.
ربما تكون هذه الأمثلة واضحة ومعروفة للجميع، وحاضرة في الوعي، بحكم قرب أحداثها. قد يتصور بعضنا أن هذا السلوك الذرائعي الذي يفقد الحركات التقليدية مصداقيتها، جديد على حركات التطرف في عالمنا الإسلامي. لكن، التاريخ البعيد والقريب يؤكد أنها ذرائعية غير أخلاقية موجودة في صميم الوعي الحركي العنفي. لقد أسس حسن البنا حزب الإخوان. لكنه - في الوقت نفسه - كان ينادي بإلغاء الأحزاب. ويقصد إلغاء كل الأحزاب إلا حزب الإخوان. واستمرت المناداة بإلغاء الأحزاب مبدأ إخوانيا إلى بداية حكم السادات.
عندما قامت الثورة في مصر كان الإخوان عضدها الأقوى، بل كانوا سندها الشعبي الذي مكنها من الثبات في اللحظات الأولى. وكان رد الجميل من قبل الثورة أن قامت - بحركة قمعية - بإلغاء جميع الأحزاب، ولكنها استثنت الإخوان. واغتبط الإخوان بهذا الاستثناء الذي فازوا به بمنطق القوة والعنف، لا بمنطق الاستفتاء والانتخاب. ولهذا تصوروا أنهم منافسون حقيقيون لسلطة العسكر، وعاندوا أكثر مما تتحمله خوذات العساكر. فكانت النتيجة الحتمية إلحاقهم بقرار الإلغاء الذي كانوا ينادون به، بل والدخول مع حكم الجيش في أشد أنواع الصراع دموية في التاريخ الحديث لمصر .
الحرية مبدأ كلي، ولا تتجزأ. وعندما تتجزأ، تصبح وهم حرية، لا حرية حقيقية. وهذا ما واجهه الإخوان في الزمن الناصري. فهم قد فرحوا وابتهجوا بقمع الأحزاب التي كانت تنافسهم قبل الثورة، واستثنائهم من هذا القمع. أي أنه قبلوا بمبدأ القمع مع غيرهم، عندما لم يتعرض لهم. والظلم - كما العدل - شمولي، فلا عدل ولا قمع بالاستثناء. وحسن البنا عندما كان ينادي بإلغاء الأحزاب، كان يرى أن حزبه محصّنا بأنه حزب دعوة لله، وأنه ليس كغيره من الأحزاب، غارق في الفساد السياسي. ومعنى هذا، أنه كان يرى لنفسه ولحزبه حصانة ؛ لأنه يتحدث باسم الدين، ولأنه - كما يصور نفسه - ليس حزبا بالمفهوم السياسي، وإن جماعة دعوة، حتى وإن مارس البنا نفسه الترشيح للبرلمان!.
المهم أن الإخوان بعد زوال النظام الناصري، والسماح بإنشاء الأحزاب في عهد السادات، تراجعوا عن مبدأ حسن البنا، وقالوا بالسماح للأحزاب، بعد أن أدركوا أن مرحلة الاستثناء لن تعود أبدا. لهذا، قبلوا - علنيا - أن ينطبق عليهم ما ينطبق على الأحزاب، وأعلنوا قبولهم للعملية الديمقراطية، وأنهم راضون بمبادئ تداول السلطة. وبدأوا يُلحون على السماح لهم بالعمل الحزبي العلني، بدعوى أن النظام يبيح حق إنشاء الأحزاب. وهذا - علنِيّاً - تحوّل جذري في الموقف من الممارسة الديمقراطية، لم يستطيعوا أن يأتوا له بمؤكدات وضمانات من داخل المنظومة الفكرية للإخوان، بحيث يطمئن الشارع السياسي إلى أنها تحولات في القناعة، وليست مجرد تجارة بالشعارات.
من حق الجميع أن يفهموا، ومن واجب الحركات التقليدية العنفية أن تعلن عن جوهر مبادئها. والإخوان - إذ يطالبون بحق الممارسة السياسية العلنية - لم يفصحوا عن تفاصيل مشروعهم ؛ على افتراض أنهم سيصدقون في تطبيقها. الحقيقة التي تتم قراءتها من خلال منطق المنظومة، ومضامينها الداخلية، أنهم ضد العملية السياسية الديمقراطية التي يطرقون أبوابها ؛ في انتظار الدخول. الحريات التي يؤكدون صونها الآن، تخضع لتفسيرهم الخاص للحرية. بل قد تفلت منهم - أحيانا - كلمات عابرة، تؤكد حقيقة المضمون القمعي لديهم. فهذا المرشد الثالث للإخوان: عمر التلمساني، الذي كان يلح على ديمقراطية الإخوان، يخاطب الرئيس السوداني السابق: جعفر نميري، بقوله - مشيرا عليه بكبت حريات الكتّاب -: "فعلى القائد الحصيف أن يُحذرهم، وأن يكبح جماحهم، ولا يُفسح لهم في غيهم بحجة حرية الرأي والكلمة" .
هل نصدق التلمساني عندما يدعو للديمقراطية، وينكر مضمون الفكر الإخواني الذي لا يؤمن بالديمقراطية؟ ، هل نصدق التلمساني عندما يدعو للحرية، وهو - كما في نصه السابق - يشير على أحد الحكام بسياسة قمع الحرية، بل وحرية الكلمة على وجه الخصوص؟. إذا كان يشير بهذا، وهو لا يمتلك سلطة، فكيف لو أمسك بسلطة حقيقية، والسلطة الحقيقية هي التي تشكل الامتحان الحقيقي والعملي لدرجة الالتزام بالمبادئ والمثاليات؟.
ربما تكون الأمور غير واضحة، حتى بالنسبة إلى قيادات الحركات التقليدية المتطرفة. فهم يرون شعار الديمقراطية رائجا، والمطالبة بالحرية قد أصبحت مبدأ جماهيريا لا تنازل عنه. ومن ثم، فهم ينساقون وراء الحالة الراهنة، وينغمسون في وهج إغراءات الشعار، دون أن يعوا - بدرجة عالية من الوضوح - تحديث التفاصيل، عندما يواجهونها على أرض الواقع. إنهم يعتقدون أن الأمر ليس معدا في مسألة الحريات، ولا في منطق القوة وتحولاتها، فيسارعون إلى تبني مبادئ الحرية كشعارات، دون أن يعوها واقعيا. وعندما يلامسون حرارتها في الواقع، فسرعان ما يجزعون منها، ويتنكرون لها .
عن بعض هؤلاء مع الشعارات والمقولات ذات الإغراء الجماهيري، أشبه بشاب رأى امرأة في غاية الجمال (= السلطة هنا) ففتن بها، وقرر الحصول عليها بالحلال (= العملية الديمقراطية). تقدم لخطبتها، وبدأ أهل العروس يملون عليه الطلبات التي تفوق قدرته بمراحل ومراحل. لكنه تحت ضغط الإغراء، ولأنها في حالة هيام مسكر، فقد بدأ يجيب على كل طلب: موافق موافق. المهم أن يحظى بمعشوقته، وليس من المهم أن يكون قادرا على تحقيق شروط الزواج. لا شك أن الحركات المتطرفة تمارس دور العاشق هنا، والسلطة دور المعشوق، والمؤسسات الجماهيرية دور الأهل الذين يشرفون على عملية الزواج. وعندما يُصدّق هؤلاء الأهل بمجرد كلمة: موافق، ولا يتحققون من إمكانيات الخاطب وقدرته على تحقيق طلباتهم التي يوافق عليها بدون توضيح وبيان مفصّل، فإنهم سيجدون أنفسهم ضحية عملية احتيال. وسيسعون من أول ليلة لإبطال هذا الزواج (= كمحاولات الشعب الفلسطيني التحرر من حماس) ولكن الزوج سيجاهد لاستمرار عملية الزواج ولو أصبح زواجا بالإكراه (إصرار حماس على بقائها في السلطة)، وسيبرر ذلك بحالة العشق والهيام.
لكن، حالة الحب - على افتراض حقيقتها - لا تبرر عملية الاحتيال. عملية الاحتيال هذه تقلب الحلال إلى حرام. ولهذا، يجب على الحركات المتطرفة التي تتلبس بالدين أن تتأكد من قدرتها على الوفاء بوعودها، إذا ما افترضنا أنها كانت تضمر حسن النوايا، ولكن لم تطق حمل أعباء لم تعتد عليها من قبل. أما إذا كانت - وهذا هو الغالب - تمارس الخداع عن سبق إصرار، فلا حيلة إلا أن تدرك الجماهير أن ما تقوله هذه الحركات والتيارات التقليدية العنفية شيء، وما تريد أن تفعله - لاحقاً - شيء آخر، شيء سيتمظهر في أبشع صور القمع والإذلال وكبت الحريات .
الحركي العنفي مشدود إلى زاويتين - كل منهما تبعده أكثر فأكثر عن الوفاء لمقولاته العلنية وشعاراته الجماهيرية -: زاوية الوفاء للمضمون العنفي الذي تأسس عليه وعي الحركة أو التيار، وزاوية الانشداد إلى إغراءات السلطة وإرادة الهيمنة. وكل منهما كفيلة بجعل هذا الوفاء مستحيلا، وتحويل الوعود والتأكيدات إلى مجرد خطوط على صفحة ماء! .
إلى الآن، لم تأتِ حركة تقليدية متطرفة، فتصدق مع جماهيرها وتمارس التطابق بين النظري المعلن والعملي الواقعي. وليس صحيحا أن هذه الحركات العنفية لم يسمح لها لتمارس السلطة، فيتضح صدقها من كذبها. فقد مارست - ولو على مستوى عسكري محدود، أو على مستوى حزبي أو حركي أو نفوذ معنوي - شيئا من السلطة، فكانت النتائج كارثية، كما طالبان وحماس وحزب إيران في لبنان وجماعات العنف في الصعيد المصري في الربع الأخير من القرن العشرين.
قد تلاقي بعض هذه الحركات - لأسباب شتى ؛ غير موضوعية! - نجاحا جماهيريا واسعا، فتظن نفسها على بعد خطوة من الظفر بالسلطة، وحينئذٍ لا تملك نفسها، فتتساقط منها التصريحات التي تعكس حقيقة موقفها، وتضطرب، حتى تتناقض مع نفسها في مكان واحد وزمان واحد. ولاشك أن كثيرين من المنحازين للممارسة الديمقراطية المجردة، والذين لا يدركون خلفيات المد الحركي العنفي، كانوا يؤيدون استحقاق حركة الإنقاذ الجزائرية للفوز في تسعينيات القرن الماضي. وكثيرون من هؤلاء عارضوا إلغاء الانتخابات ؛ لأنها وأدت - في ضوء نظرهم للعملية في بعدها المثالي المجرد - التجربة الديمقراطية، ولم يتفحصوا المضمون الحركي لجبهة الإنقاذ.
مشكلتنا أننا كثيرا ما نصدق الوعود والشعارات، وخاصة التي تتلبس بالمقدس الديني، ولا نكلف أنفسنا عناء متابعة رحلة انبعاث الحركة، ولا فحص أدبياتها الحاكمة على سلوكها. فالباحث في شأن الحركات الإسلامية: دانيال برومبرغ، ينقل تصريحات عباس مدني (زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر) صيف عام 1990م، عندما يقول - مفصحا عن تقبله للديمقراطية -: "فليس هناك ما يضير في تقاسم السلطة طالما أن السلطة هي لكل الشعب". وهذا تصريح شعاراتي صريح، في قبول التعددية الديمقراطية. لكن، هل هذا التصريح يعبر عن مبدأ تربت عليه الحركة وربّت عليه أنصارها، أم أنه تصريح تكتيكي، يستخدم فيه الإسلاميون الخطاب التقدمي لكسب حلفاء من داخل النظام الاجتماعي؟. برومبرغ يرجح أن الأمر ليس أكثر من تكتيك ذرائعي، مؤكدا أنه يجب علينا أن نأخذ بالحسبان دور الإيديولوجية في تأمين المساومات الديمقراطية أو إعاقتها. وهذا ما أعبر عنه بالمضمون العام لأية حركة أو تيار، إذ هو صانع وعيها، والمحدد الحقيقي لسلوكها في بعده الغائي .
بينما يصرّح عباس مدني بهذا التصريح الانفتاحي التقدمي، يصرّح نائبه: علي بلحاج بالمقولات الانغلاقية النضالية. ويرى برومبرغ أن هذا سلوك ذرائعي لكسب دعم فقراء المدن. إذن، رئيس الحركة يقول شيئا يرضي المؤسسات المدنية ؛ ليتمكن من الدخول من خلالها إلى حرم الممارسة الديمقراطية، ونائبه يصرّح بمقولات حماسية مناقضة ليكسب شرائح جماهيرية واسعة، تمكنه من الفوز في الاقتراع القادم.
بل إن الأمر قد تعدى هذا التقاسم الذرائعي للأدوار، فبعد عدة أسابيع من فوز الجبهة في الانتخابات البلدية والمحلية لعام 1990م، يخاطب عباس مدني - شاجبا - الشيخ: نحناح، الذي دعا لحلف إسلامي، بأن على "كل من يريد الوحدة أن ينظم إلى صفوفنا لإنشاء دولة إسلامية". ونحناح هذا، يقود فصيلا إسلاميا آخر، ومع هذا لم يقبله عباس مدني كفصيل سياسي منفصل، وإنما اشترط عليه الانضمام إلى حركته، جراء سكرة الفوز بالانتخابات. بل في السنة نفسها يصرّح عباس مدني قائلا: "البرلمان ما هو إلا أداة للحوار (لاحظ، يريد تجريد البرلمان من سلطته التي بإمكانها أن تحد من هيمنة حركته) وقد أصبح بلا جدوى. إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لن تحترم إلا ... إرادة الشعب، وأعني بها إقامة دولة إسلامية هذا العام".
قبل سنة 1990م لم يكن عباس مدني يطرح مشروع دولة إسلامية، فضلا عن أن يؤكد أنها إرادة الشعب، وأن الحركة لن تحترم إلا إرادة الشعب، أي أنها لن تحترم حتى الأداة الديمقراطية التي ستمكنها من السلطة. بل هو يؤكد في هذه الأثناء التي رأى فيها النصر الانتخابي قريبا منه، أن الحقيقة لا يمكن قياسها حصرا بالأقلية أو الأكثرية، وأن "الحقيقة هي الحقيقة سواء جاءت من الأقلية أو الأكثرية" وهذه لغة أخرى، تناقض - تماما - المبدأ الديمقراطي الذي يمارس سياسته في الوصول إلى الحكم من خلاله.
هكذا إذن. صحيح أن الحقيقة لا تمثلها الأكثرية في السياق المعرفي. لكن عندما يأتي هذا في سياق جدل سياسي ديمقراطي، يحق لنا أن نسأل: من يمثلها؟. عباس مدني يقول - بعدما ترك الديمقراطية جانبا - الإسلام. حسنا، سمعنا واطعنا. لكن من ينطق بالحقيقة في الإسلام، خاصة في وقائع زمنية لا نص فيها، بل يختلف فيها المجتهدون؟ لهذا ليس غريبا أن يؤكد بعد ذلك أنه يتخطى ما يسمى (ديمقراطية) إلى ما هو أسمى وأكثر كمالا؟. ما هو هذا الأسمى والأكمل، وهل ستصل إلى تنفيذه عن طريق الاحتكام إلى هذه الديمقراطية الناقصة! ، أم ستخدع الجماهير حتى تصل إلى كرسي الخلافة، فتصبح: أمير المؤمين؟!.
التناقضات كثيرة، وقد كانت تتصاعد بفعل التأييد الجماهيري العريض. وبينما كتم عباس مدني يتناقض على هذه الصورة التي رأيناها، كان نائبه بلحاج يعد - بوضوح - بحرمان المختلفين معه من علمانيين وعرقيين من حق الانتخاب. كل هذا ولم تمسك اليد الإرهابية بالسلطة الفعلية، فكيف لو أمسكت؟. ومع هذا، وبغيبوبة مثالية بلهاء، ينادي بعض الليبراليين والتقدميين بأن يمنح هؤلاء الذين لا يؤمنون بالتعددية ولا بالديمقراطية فرصة استغلال الديمقراطية والانقلاب عليها. ويبقى الأهم من كل هذا: متى ينتهي هذا الاغترار الجماهيري بالتطرف وتياراته، ومتى نفيق من هذا الخداع الذي لا يحتاج كشفه أكثر من لحظة استبصار؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.