لا بد من التأكيد على أن كل ما قلناه، وكل ما سنقوله اليوم، ولاحقاً، عن طبيعة الحكم السياسي في إيران، لا نقصد به تبخيس الشعب الإيراني، ولا تبخيس الحضارة الإيرانية العريقة؛ فضلاً عن الإزراء بالمرجعية المذهبية لرجال الدين هناك، وإنما أردنا – فقط - مقاربة أحد أشهر وأقوى النماذج التي فرضت نفسها على الواقع الإسلامي، كنموذج للحكم المتأسلم، هذا الحكم الذي لا يزال حاضراً لدى معظم الأطياف الأصولية في كثير من البلدان الإسلامية، بصرف النظر عن المضمون المذهبي، وبصرف النظر عن طبيعة الشعب موضوع التجربة، وبصرف النظر عن المرجعية الأعمق التي تُحيل إليها مكونات الوعي العام. فكل بلد إسلامي تنشط فيه تيارات الأسلمة مُعرّض للمرور بذات التجربة الإيرانية، أو بما هو أسوأ منها، خاصة بعد ما فتحت الفوضى الشعبوية الأبوابَ لكل أشكال التجارب بلا حدود ولا قيود، وانساقت الجماهير لاهثة خلف كل بارقة أمل؛ حتى ولو كانت تُومض من تجربة ماضوية راسخة في عالم الاستبداد القروسطي. كان الخميني، مؤسس الجمهورية الإيرانية، يُمثّل تطلعات رجال الدين السلطوية ذات الطابع الاستبدادي، في الوقت الذي كان يُناضل فيه ضد استبداد وطغيان الشاه!. بل كان يرى نفسه، ومن ورائه رجال الدين، أنه الأحق بكل ما يتمتع به الشاه من جاه وسلطة وإعجاب جماهيري لا ريب أن كل نظام يبحث لنفسه عن شرعية في عدالة ما، أو عدالة من نوع ما. وبالتالي سيتزيّا بكل ما من شأنه أن ينأى به عن تهمة الاستبداد حتى ولو كان الاستبداد قوام وجوده. ومن هنا وجدنا كبار المستبدين، بل وكبار الطغاة يطرحون أنفسهم كمُحررين للشعوب من وهم العدوان الخارجي؛ بعد أن عجزوا عن تحرير الشعوب من حقيقة طغيانهم الداخلي، وأصبح الضرب على وتر الحرية ومساراتها جزءاً من صناعة المشروعية في كل نظام. إذن، لا غرابة أن وجدنا رجال الدين (الذين لا يتجاوز وعيهم العدلي/ الحقوقي "عدالة مزاجية الشخص الفرد"، تلك العدالة المستمدة من وعي تاريخي سحيق) يتزيون ب"الديمقراطية الاستبدادية !"، حيث الشكلانية الديمقراطية توفر غطاء شرعياً للجوهر الاستبدادي الكامن، والذي لا بد أن يكون هو الأصل في وعي الثيوقراطيين أينما وُجدوا وكيفما وجدوا. ولتمرير قيود الاستبداد عبر قيود الشكلانية التحريرية/ الديمقراطية، يتم نسج تلك القيود الحريرية - التي ستستحيل إلى قيود فولاذية - من فتائل المقدس الديني الذي يجعل جماهير المؤمنين لا تفرق بين الإخبات التعبّدي لرب العالمين، والاستحذاء التذللي لكبار المستبدين. كان الخميني، مؤسس الجمهورية الإيرانية، يُمثّل تطلعات رجال الدين السلطوية ذات الطابع الاستبدادي، في الوقت الذي كان يُناضل فيه ضد استبداد وطغيان الشاه!. بل كان يرى نفسه، ومن ورائه رجال الدين، أنه الأحق بكل ما يتمتع به الشاه من جاه وسلطة وإعجاب جماهيري. يذكر فرهنك رجائي في كتابه (الإسلاموية والحداثة، الخطاب المتغير في إيران ص10) أن الشاه استقبل استقبالاً حافلاً عندما زار قُم؛ فقال الخميني بعد أن نقل له أحدهم أخبار هذا الاستقبال: "سيحين دورنا نحن أيضا". وهذا يعني أن سلطوية رجال الدين هي التي كانت حاضرة في وعي المؤسس الأول لجمهورية رجال الدين، وليس تحرير الإيرانيين، أو - على نحو أدق - ليس بالدرجة الأولى تحرير الإيرانيين، ولا تحرير الدين. عندما كان الخميني يُؤسس لنظرية ولاية الفقيه المطلقة، ويوطد لها في بُنيّات النظام الناشئ؛ كان خليفته المنتظر: آية الله حسين منتظري يتمايز قليلاً عن هذه الرؤية الخمينية الاستبدادية، محاولاً تقليم أظافر النظرية إلى الحدود الدنيا التي ترضي غرور المتواضعين من رجال الدين، ولا تضع – في الوقت نفسه – الإيرانيين تحت نير الاستبداد الثيوقراطي. وبطبيعة الحال؛ لم يكن منتظري ديمقراطياً حقيقياً؛ ولا يستطيع أن يكون (وهذا واضح من خلال شروطه التي نص على وجوب توفرها في الحاكم، ومنها: الذكورة، وأيضاً، تأكيده على أن الحاكم هو المسؤول، ولا يلزمه اتباع الأكثرية)، لكنه كان – بلا شك - أميل إلى إعطاء الشعب دوراً أكثر مباشرية في انتخاب الولي الفقيه، وأميل – وهذا هو الأهم – إلى تحديد صلاحية الحاكم الإسلامي بالدستور؛ لا أن تكون سلطته/ ولايته مطلقة؛ بحيث تضارع سلطة الرسول أو سلطة الإمام، إذ كان منتظري يعي أن هذه السلطة/ الولاية المطلقة للفقيه تنطوي على إشكال لاهوتي عميق، يمس جوهر الإمامة ذاته، ومن ثم يمس كل مسارات المحاججة المنطقية للمذهب من الأساس. لهذا، لم يكن لتصورات منتظري أن تأخذ طريقها إلى الواقع الذي بدأ رجال الدين يتسيدونه؛ لأنها ضد تسيد رجل الدين تسيداً مطلقاً لمجرد أنه رجل دين. لقد رأى رجال الدين أن تصوراته تحد من نفوذهم في الواقع، وأنها تمنح الشعب/ الناس استقلالية أكثر مما ينبغي. ومن هنا تم إقصاء منتظري عن موقعه كخليفة للخميني، ثم جرى تهميشه على المستوى السياسي بالكامل، وتطور الوضع إلى حد فرض الإقامة الجبرية عليه إلى آخر يوم في حياته التي امتدت لعشرين عاما بعد وفاة الخميني. وكل ذلك من أجل أن تبقى رؤاه وتصوراته خارج نطاق التأثير في جماهير المتدينين الذين يحتاجهم النظام الخميني/ الخامنئي من أجل إرساء قواعد الحكم الثيوقراطي الاستبدادي الذي لا يمكن أن ينهض إلا على أكتاف المؤمنين إيماناً أعمى بولاية الفقيه المطلقة التي لا تُعرف لها حدود؛ إلا رغبات وتطلعات الولي الفقيه. لقد بدأ الخميني رحلته السياسية كعقائدي وليس كسياسي، على الأقل كما يبدو في صورة الخطاب المعلن. لكن، هل كان الخميني سياسياً يتوسل الدين، أم رجل دين يتوسل السياسة؛ لكونها السبيل الأنسب لتجذير الإيديولوجيا الخاصة؟!. من الواضح بعد أكثر من ثلاثة عقود على نضج التجربة أنه مزيج من هذا وهذا، وأن محاولة الفصل بين هذين المسارين المتفاعلين جدلياً لن تكون محاولة ناجحة. بل من المرجح أن الأمور كانت تسير بتفاعل معقد على هذا المستوى الجدلي، وأن الخميني ذاته لا يستطيع – ولا حتى أمام نفسه – البت في ترجيح المحددات الأولى لخياراته، فهناك دائماً ما يتوارى من عالم الشعور/ عالم الوعي ليجد له ملاذاً في عالم اللاشعور/ عالم اللاواعي. المهم، أن الخميني، ومنذ البدايات الأولى لحراكه المسيّس، كان إيديولوجياً صريحاً، بل وكان دوغمائياً حتى مع رفاقه من رجال الدين الذين قد لا يشاركونه آراءه الأصولية ذات البعد السياسي الحركي. هذا النفس الدوغمائي كان راسخاً في شخصيته حتى قبل نجاح ثورته. وربما كانت رسالته التي بعث بها إلى العلماء في أبريل 1963م محرضاً لهم من أجل الوقوف ضد الظلم والفساد أفضل ما يكشف عن هذه الدوغمائية الصارخة. يقول - كما يقول أي سلفي عتيد -: "فالقرآن والدين بأسره في خطر عظيم. فالتقية في مثل هذه الحال حرام، وإظهار الحق واجب شرعي" (إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية، علي محافظة ص96). إذاً، الصواب ذو وجه واحد عند الخميني؛ حتى ولو كان خياراً سياسياً في طبيعة/ كيفية مواجهة الظلم، مما يعني عملياً نفي كل الاجتهادات الأخرى التي قد تكون معنية بخلق توازنات أعمق، سواء في السياق الديني أو في السياق المدني/ السياسي. هذا منطقه قبل ستة عشر عاماً من ثورته. وللأسف، هذه الرؤية الأحادية السلطوية هي التي سادت من بين جملة خيارات كانت مطروحة في ساحة الفعل السياسي الديني، وهي التي حكمت مسيرة المحافظين منذ التفافهم حول الخميني قبل الثورة بسنوات وإلى اليوم. مات الخميني؛ ولم يمت. آراؤه لا تزال حاكمة، وتلاميذه لا يزالون يتسيدون المشهد السياسي في إيران. روحه المحافظة ذات الطابع التسلطي لا تزال تُلهم الأصوليين في جمهورية رجال الدين. فهذا مصباح يزدي، زعيم تيار المحافظين اليوم، وأقرب المقربين إلى مرشد الثورة الحالي/ خامنئي يُصرّح برفض التعددية، ويستدل على ذلك بأن رسل الله لا يؤمنون بالتعددية، بل آمنوا بفكرة واحدة فقط، هي الفكرة الصحيحة. (الإسلاموية والحداثة، الخطاب المتغير في إيران ص272). وهذه الرؤية الأحادية هي جوهر الرؤية السلفية/ الأصولية في كل دين وفي كل مذهب، إذ هي تُماهي – حد التطابق - بين رؤيتها التأولية البشرية النسبية، غير المعصومة، وبين ما كان إلهياً مقدساً متحقق الصواب في وجوده المطلق/ المتعالي. لقد وضع الخميني أسس دولة سلفية، بل وطائفية في سلفيتها أيضاً. ومع هذا تم رسم هياكلها على هيئة النظم الديمقراطية ذات الطابع المؤسساتي، مع أن الخميني يرفض هذا الاسم (= الديمقراطية)، ويعده لفظاً مستعاراً من الأمم الكافرة المستكبرة. وقد اتضح هذا الرفض بجلاء عندما أصرّ مهدي بازركان (أول رئيس وزراء) بأن يكون الاستفتاء على (الجمهورية الديمقراطية)، بينما أصر الخميني على (الجمهورية الإسلامية) فقط، رافضا لفظ: الديمقراطية (إيران بين ثورتين ص148). وهذا يعني أن الخميني كان يدرك منذ البداية أنه يؤسس لدولة دينية، لا دولة مدنية ديمقراطية، فجمهوريته – من حيث مُسمّاها الرسمي الذي جادل لتثبيته - هي جمهورية إسلامية، وليست جمهورية ديمقراطية. وهذا ما سيثبت رسمياً في المتن الدستوري، كما سيبدو واضحاً في طبيعة عمل المؤسسات التي تشكلت في الواقع كتجسيد عملي/ فعلي للدستور، الذي هو – أي الدستور - رؤية الخميني للحكومة الإسلامية كما يجب أن تكون. ينص الدستور الإيراني (الديمقراطي!) على أن منصب القائد/ الولي الفقيه لا يشغله إلا شيعي إمامي اثنا عشرياً، وكذلك منصب رئيس الجمهورية، وأن الدين الإسلامي - وفق المذهب الجعفري الإثنى عشري - هو دين/ مذهب الدولة الرسمي، وأن هذه المادة باقية إلى الأبد، غير قابلة للتغيير. ومعنى هذا أن المواطنة المدنية/ المساواتية التي هي شرط الديمقراطية الأول، بل الشرط الجوهري، غير متوفرة بنص الدستور. فكأن الدستور ينص منذ البداية على أنه دستور غير ديمقراطي. ويزداد التمييز وضوحاً عندما تُستبعد المرأة من المناصب القيادية كافة، فضلاً عن منصب المرشد، ومنصب رئيس الجمهورية، والمناصب القضائية. وهذا التمييز الجنسي الصارم والصادم، الذي يحرم المرأة من المناصب العليا لمجرد كونها أنثى، هو ما جعل فايزة علي أكبر هاشمي رفسنجاني (ابنة رئيس الجمهورية الأسبق)، تهاجم رجال الدين لكونهم سبباً في التمييز الجنسي الذي ينسبونه – زوراً - للإسلام. تقول: "ليس هذا هو الإسلام، وإنما هو تفسير رجال الدين لمفاهيمه ومبادئه. فهم الذين منعوا النساء من الترشح للمناصب العليا في الدولة" (إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية ص210). ولا شك أن المرأة الإصلاحية باتت تعي أن ما يطرحه رجال الدين؛ مما يتعارض مع بدهيات حقوق الإنسان، ليس من الدين في شيء، وأنه مجرد رؤى خاصة، أنتجها الفهم البشري القاصر لمجموعة بشرية محدودة الوعي، ورغم محدودية فهمها السلفي فهي تريد احتكار الحديث عن الدين. المتعصبون إقصائيون بطبيعتهم. وعندما يحاولون تأسيس ديمقراطية فستكون ديمقراطية صورية، تُميّز على أساس الدين، وعلى أساس المذهب، بل وعلى أساس النوع (ذكر- أنثى). ديمقراطية تمييزية على هذا النحو، هي أقصى ما يستطيعه رجال الدين؛ بعد أن رهنوا عقولهم لعقول انتهت صلاحيتها بانتهاء صلاحية ما أنتجته منذ ألف عام. لا يستطيع الأصوليون السلفيون (أيا كانت انتماءاتهم المذهبية) تجاوز الأسلاف حقيقة، لا يستطيعون اجتراح شيء حقيقي في مجال الفعل السياسي المعاصر، خاصة في جانبه التحرري. وإذا كانت ديمقراطية رجال الدين في إيران تُقصي: (غير المسلم) و (غير الشيعي) و (غير الذكر= المرأة)، فهذا ليس سلوكاً استثنائياً لرجال الدين هناك، كما أنه ليس صادراً عن مضامين مذهبية محددة، بدليل أن أمّ الحركات الإسلامية السنية المعاصرة (= جماعة الإخوان)، وكل تفريعاتها، هي تسير – فكراً وممارسة - على هذا المنوال من الإقصاء السياسي؛ مع ادعاء الديمقراطية في كثير من الأحيان. ولنعرف؛ يجب أن نتذكر أن مكتب الإرشاد الإخواني (أعلى هيئة سياسية في الجماعة)، لم ينتخب امرأة واحدة في عضويته على مدى 88 عاماً من تاريخه، بل ولا ظهر في الجماعة صوت نسوي قيادي؛ رغم الأدوار الكبيرة المنوطة بالكوادر النسوية على مستوى العمل الميداني الإرشادي/ التعبوي. ولهذا قال صلاح نيوف وهو يناقش المشروع السياسي للإخوان: " نعتقد أن الإخوان المسلمين ليس لديهم ما يقدمونه، كإضافة على الجمهورية ‘‘الإسلامية‘‘ الإيرانية" (الإخوان المسلمون في سورية ص56). وبهذا يتضح أن تجربة رجال الدين في إيران، رغم محدوديتها، ورغم انغلاقها، بل ورغم بؤسها، تُعدّ خطوة متقدمة؛ قياساً بما تطرحه الحركات المتأسلمة اليوم في العالم العربي.