انحاز الناقد والروائي د.سعود بن حامد الصاعدي إلى الصحراء وهو يعرض آخر وريقات كتابه "البلاغة الكونية"، واصفا الغابة ب"المغلق" في مقابلة رمزية بين الثقافة العربية والغربية، عادا الصحراء صانعة للثقافة المطلقة لأن سقفها السماء، والعربي يتعامل مع السقف: "النجوم، الرياح، المطر.." دون أن يعير الماديات والعالم المستهلك اهتماما، وهذا تثبته الرحلة العربية والتنقل من مكان إلى مكان دون احتفاء بالملبس، والمعطيات الحضارية، جاء ذلك في محاضرته الموسومة ب"الصحراء والغابة, مقاربة تأويلية" والتي قدم لها محمد كاتبي، وألقاها في نادي المدينةالمنورة الأدبي مساء أمس الأربعاء. وقال د.الصاعدي: الصحراء والغابة بوصفهما فضاءين ينتج كل منهما ثقافته وينحاز إلى طريقة في رؤية الكون وهذا ينعكس على البيان القولي شعرا ونثرا، وفي مقابلة الصحراء بالغابة تبرز ثنائية الثقافة والحضارة كما هي عند علي عزت بيجوفيتش في كتابه الخالد "الإسلام بين الشرق والغرب"، فهو يرى أن الحضارة لها أصل سماوي منذ أن نفخ الله سبحانه وتعالى الروح في آدم ومنذ أن بدأت الدراما الإنسانية ولذلك الثقافة هي تأثير الإنسان على الإنسان وهي تنحاز إلى المعاني والزمن لذلك فإن التجديد مفهوم ثقافي وليس مفهوما حضاريا فهو ليس إضافة الجديد بل إعادة القديم إلى جدته، وفي معنى الحديث أن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها، فالتجديد ليس إضافة بل إعادة إلى الفهم الأول، وما يقابل التجديد "الحداثة" وهي في الدين ليست مرغوبة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، ولكن الحداثة مفهوم حضاري وهي امتداد حضاري للمستقبل. وأضاف: الصحراء بعدها بعد ثقافي بينما الغابة بعدها بعد حضاري ولذلك انعكس على العرب الإحساس بالزمن والحنين إلى الماضي والعودة إلى الجذور، وانعكس على الغرب الاشتغال بالحاضر والانهماك في الزمن المتقدم وفي صناعة الطبيعة بالعقل، فالتقدم الحضاري تقدم "دارويني" تقدم تقني ليس فيه بعد إنساني، بينما الثقافي عودة للأصول وتجديد لها. وأشار الصاعدي إلى أن الحضارة والثقافة أول ثنائية تقابلنا في ثنائية الصحراء والغابة، إذا قلنا أن الصحراء لها بعد زمني فالصحراء هي "المطلق" كم وصفها الياباني نوتوهارا صاحب كتاب "العرب وجهة نظر يابانية" الذي أمضى أربعين سنة في الصحراء، ويقابل ذلك بأن الغابة هي "المغلق"، فالذي يشعر بالانفتاح الفضائي الواسع يبحث احتيالا على هذا المطلق ما يجعله ينكفئ على ذاته ويجعله يتوجس من هذا الانفتاح، والمغلق يحاول أن ينفتح فالأضداد تولد الأضداد، والغابة تنطوي من خلال كثافة الشجر على العطاء الحضاري الذي يعطيك امتداد العصا وما بعد العصا من صناعات، إذن هي تصنع الحضارة، بينما الصحراء هي جذور الثقافة، لأن سقفها السماء، ولأن العربي يتعامل مع السقف: النجوم، الرياح، المطر، فثقافته تصنع من المطلق لا تعير الماديات والعالم المستهلك اهتماما، وهذا تثبته الرحلة العربية والتنقل من مكان إلى مكان وعدم الاحتفاء بالملبس والمعطيات الحضارية. وحول الثنائية الأخرى "تقابلية الزمان والمكان" لفت المحاضر إلى أن الصحراء فضاء مطلق فهي فضاء زماني والإحساس بالزمن إحساس مفتوح، وهو ما ولد الموسيقى الشعرية التي تؤول بأنها محاولة للقبض على الزمن من خلال التفاعيل المغلقة التي تكرر نفسها في الأبيات، وهناك بعض القيم البيانية التي نتجت عن الزمن تكريسا لفكرة الزمن الدائري "عودة الصدر على العجز"، بينما تنحاز الغابة إلى المكان كونها متاهة مكانية نتج عنها شجرة المكان التي أعطت الغربي الحضارة المجسدة بينما شجرة الزمان أعطت العربي النسب المجرد ولذلك العرب يحتفون بالنسب في صورة شجرة تجريدية ذهنية، فكل عربي يهتم بالنسب والقبيلة والجذور، فالتجريد في الزمان يقابله التجسيد في المكان. ثم انتقل في قراءته الفلسفية إلى فكرة الزمن الدائري وانقسام المفكرين حولها بحسب رؤيتهم ومواقفهم فأدونيس في كتابه "جسم الصحراء" ومحمد مفتاح في أحد كتبه يرونه غير منتج لأنه رجعية بلغة أدونيس، بينما المفكر مالك نبي يرى بأن المجتمع أفراده يتجددون أما بنيته باقية أي أن الزمن الدائري يحافظ على تماسك المجتمع. وتناول في مقابلته مفهوم القراءة فالعربي حرم القراءة الورقية فنتجت عنه حاسة أخرى هي القراءة الكونية، قراءة السماء، ملامح الوجه، قيافة الأثر، قيافة البشر، ومع ذلك فالجاهلي كان يشير في قصائده إلى الورق والزبور مما يؤكد أن في ذهنه قراءة أخرى موازية "زبرا تجد متونها أقلامها"، والقراءة التي وردت في سورة العلق "اقرأ باسم ربك الذي خلق" سبقت بقراءة كونية للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يتأمل بالكون يمارس تعبدا تأمليا.