"المطبخ".. ليس مكاناً معنوياً متخيلاً تتم فيه عمليات السرد وإبداع الشخصيات والحبكة وما إلى ذلك، قبل ظهورها بصورتها النهائية للقارئ، بل المقصود به هنا هو "مطبخ المنزل"، الذي يحتوي على الموقد والأواني وأدوات الطبخ والأطعمة، لم يكن هؤلاء الروائيين في مطابخ منازلهم ليتناولوا الإفطار أو ليستعرضوا مواهبهم في الطبخ وإعداد الطعام.. إنما كانوا هناك ليكتبوا "رواية"!. ربما لشح الأماكن المعدة لمثل هذا الغرض، سواء كان ذلك داخل المنزل أم خارجه، لجأ هؤلاء الروائيون إلى المطبخ ليكتبوا رواياتهم، ولكن سرعان ما نجحت تلك الروايات، ليفتح لهم هذا النجاح بابا للخروج من المطبخ واستقلال مكتب خاص ولائق بروائي تتم فيه عمليات الكتابة. حسنا.. ربما لم يكن هذا الخروج من المطبخ منذ أول رواية بل ربما استدعى ذلك روايتين ناجحتين أو ثلاث ليتسنى بذلك للروائي الخروج من المطبخ والاستقلال. يتحدث الروائي الياباني "هاروكي موراكامي" عن بدايته في كتابة روايته الأولى (أسمع الريح تغني) على طاولة المطبخ فيقول:" كل ليلة بعد ذلك، حينما كنت أعود متأخرا من العمل، كنت أجلس على طاولة المطبخ واستغرق في الكتابة، كانت تلك الساعات القليلة التي تسبق الفجر عمليا هي وقت فراغي الوحيد، وعلى مدى الستة أشهر التالية أو نحو ذلك كنت قد كتبت (أسمع الريح تغني)". استمر موراكامي في الكتابة على طاولة المطبخ حتى في روايته الثانية (الكرة والدبابيس) فيصف ذلك بقوله: "قمت بكتابة رواية (الكرة والدبابيس، 1973) في العام التالي كتكملة لرواية (أسمع الريح تغني)، وكنت ما زلت أدير مقهى موسيقى الجاز، مما يعني أن رواية (الكرة والدبابيس، 1973) قد كتبت أيضا في وقت متأخر من الليل على طاولة المطبخ، ولذلك فإنني بالحب المختلط بقليل من الحرج أطلقت على هذين العملين "روايات طاولة المطبخ"، وبعد وقت قصير من انتهائي من كتابة رواية (الكرة والدبابيس، 1973)، قررت أن أصبح كاتبا بدوام كامل، فقمنا ببيع المقهى، وشرعت على الفور العمل على أولي رواياتي الطويلة "مطاردة الخراف البرية"، والتي أعتبرها البداية الحقيقية لمسيرتي كروائي". كما يتحدث أيضا روائي ياباني آخر هو "كازو ايشيجورو" عن تجربته في الكتابة على طاولة المطبخ فيقول: "لقد كتبت أول روايتين لي على طاولة الطعام، والتي كانت في الواقع نوع من الخزانات الكبيرة مثبتة على رف مرتفع بدون باب، ولكنني كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أمتلك مكانا يمكنني فيه نشر أوراقي من حولي كما تمنيت ولا أضطر إلى جمعهم وإزالتهم في نهاية كل يوم، وقد كنت أعلق الرسوم البيانية والملاحظات في كل مكان على الجدران المقشرة وأعود للكتابة". وتتذكر الروائية التشيلية إيزابيل الليندي بداية كتابة أول كلمات من أول رواية لها كتبتها في المطبخ أيضا فتقول: "كتبت الجملة الأولى في نشوة: أتانا باراباس عبر البحر.. من كان باراباس؟ ولماذا أتانا عبر البحر؟ لم أكن أحيط بهذه الفكرة الضبابية، ولكنني استمريت وأكملت الكتابة كمجنونة حتى الفجر، وحين بلغ مني التعب زحفت نحو السرير.. تمتم زوجي: ماذا كنت تفعلين؟ أجبته: سحر، وقد كان سحرا بالفعل! ففي الليلة التالية بعد أن تناولت عشائي أقفلت على نفسي مرة أخرى في المطبخ لكي أكتب". من تلك "المطابخ" نجح هؤلاء الروائيون، وروائيون غيرهم أيضا كتبوا على طاولات مطابخهم، بالوصول إلى العالم أجمع ونجحوا بإبراز مواهبهم الفنية العظيمة التي لم يعيبها كونها خرجت من المطبخ، بل على العكس ينظر هؤلاء الروائيون إلى تلك التجربة بالكثير من الفخر والتقدير، حيث يقول الروائي الياباني هاروكي موراكامي: "ومع ذلك لعب هذان العملان القصيران دورا هاما فيما حققته من نجاح، فلا يمكنني الاستغناء عنهما بالكلية، تماما مثل الأصدقاء القدامى، ممن يبدو على الأرجح أننا لن نجتمع مرة أخرى أبدا، ولكنني لن أنسى صداقتهم أبدا، فقد كان وجودهما ثمينا حاسما في حياتي آنذاك، لقد أثلجا صدري وشجعاني على المضي في دربي"، فليس المهم أين تكتب بل ماذا تكتب فالمكاتب الوثيرة والأقلام الثمينة لا تعطيك موهبة لا تمتلكها.