إذا قرأ أحدنا كتاباً صادراً حديثاً في بيروت والدار البيضاء (عن المركز الثقافي العربي) عنوانه "صورة ابن رشد في الفكر المغربي الحديث" للباحث المغربي الدكتور عبدالنبي الحري، توصل إلى عدة استنتاجات أولها التناقض الشديد عند الباحثين المغاربة في النظر إلى ابن رشد. فمحمد عابد الجابري يرى أن "الرشدية هي مفتاح تحررنا وتقدمنا، وأن المرء إما أن يكون رشدياً أو يكون رجعياً". بل إنه يذهب أبعد من ذلك فيرسم صورة لابن رشد تبرزه كمصلح للوضع السياسي في زمنه، كما يجعل منه مفتاحاً لإصلاح أوضاعنا الراهنة، العربية منها بعامة والمغربية منها بخاصة. أما طه عبدالرحمن فعنده أن "ابن الرشد لم يكتب حرفاً واحداً لنا، بل كتب لغيرنا بلغتنا". وأضاف: "أريد أن انظر هل أن ابن رشد يستحق كل هذه الضجة، وحسبي أنه مقلّد (أي أنه مقلّد لأرسطو) والمقلّد لا يمكن أن يعوّل عليه من يطمح إلى تجديد الفكر الفلسفي الإسلامي العربي».. أما الباحثون المغاربة الآخرون فمنقسمون في النظر إلى ابن رشد وفي التعامل مع فلسفته ودوره. ثاني هذه الاستنتاجات أن «هوية» ابن رشد عند هؤلاء الباحثين تجمع بين «الأندلسية» و«المغربية» فهو ابن قرطبة حيناً، وابن مراكش حيناً آخر. أو لنقل إن «المغربية» تشمل «الأندلسية» أيضاً. فالأندلس في الذهن المغربي «مغربية» استناداً إلى أسباب عدة لعل منها فتح الأندلس نفسه الذي تم من أرض مغربية وبقيادة عملية من مغربي وبجنود غالبيتهم مغاربة. ولعل من هذه الأسباب أيضاً حملتان عسكريتان اضطلع بهما «الموحدون» و«المرابطون» لولاهما لسقطت الأندلس قبل سقوطها الأخير بزمن طويل إلى أسباب كثيرة أخرى يسوقها المغاربة للنظر إلى الأندلس على أنها، في حقيقتها، جزء من المغرب. على أنه أيا كان وجه الصواب في مجمل هذه الرؤى لابن رشد، فإن الكتاب يقدّم صورة واقعية لآخر فلاسفة الأندلس الذي وإن كانت فلسفته خاتمة الفلسفة العربية الإسلامية، في المغرب وفي المشرق على السواء، فقد لقيت هذه الفلسفة نجاحاً منقطع النظير في أوروبا العصر الوسيط وشكّلت لبنة لا في نهضة فلسفية شملت جامعات أوروبا ونخبة مثقفيها، بل في النهضة الأوروبية ذاتها فابن رشد كان في أساس عصر التنوير الأوروبي، وقد ظلت فلسفته حية في الأوساط الفكرية الأوروبية حتى القرن السابع عشر. ويتضمن الكتاب فصلاً حزيناً عن وفاة ابن رشد في مدينة مراكش المغربية التي رُحل إليها بعد نكبته المشهورة على يد الخليفة الموحّدي، ثم إعادته بعد وفاته على ظهر دابة إلى قرطبة حيث دُفن نهائياً فيها وهي مسقط رأسه أصلاً وفيها عاش وتولى منصب القضاء وكتب فلسفته وفقهه. هذا الفصل يتأسس على ما كتبه الباحث الدكتور عبدالفتاح كيليطو في عدة كتب له تناولت ابن رشد منها: «الأدب والارتياب»، «من شرفة ابن رشد» «لسان آدم». في هذه الكتب يصوّر كيليطو ترحيل جثمان ابن رشد في موكب جنائزي تحرك من مراكش في اتجاه قرطبة. لا تخرج عملية ترحيل الجثمان عن أحد احتمالين متناقضين: فقد يكون هذا الترحيل تكريماً لابن رشد، واعترافاً بقيمته وتشريفاً لذكراه بنقل جثمانه إلى قرطبة مسقط رأسه. كما قد يكون هذا الترحيل نبذاً لابن رشد ورفضاً للرشدية وقطعاً لصلتها بالأرض الافريقية. ويبدو أن كيليطو يرجح الاحتمال الثاني وبخاصة أن الترحيل لم يطل فقط جثة أبي الوليد، بل طال «تواليفه» أيضاً التي جرى التخلص منها. يقف كيليطو عند المشهد الذي يصور فيه ابن عربي موكب جنازة فيلسوف قرطبة وهو يمر أمام ناظريه، محاولاً أن يستخلص منه ما يلزم الوقوف عند دلالاته الرمزية اليوم. ولعل أهم دلالة يمكن استخلاصها، في نظره، هي «رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتين». وقد شكّل ذلك بالنسبة إلى عالم الإسلام نهاية تاريخ الفلسفة الذي ابتدأ من جديد في أوروبا. أما بالنسبة إلينا «نحن الأغنياء بمعرفة مريرة، فإن مراسم دفن ابن رشد تشكّل لحظة في تاريخ البحر الأبيض المتوسط، لحظة تبعد فيها الفلسفة إلى الشمال» على حد تعبير كيليطو. كان مشهد ابن عربي وصاحبيه اللذين كانا واقفين معه في مدينة مراكش، لحظة ترحيل جثمان ابن رشد إلى قرطبة، يبعث على السخرية. فقد اكتفوا بلعب دور المتفرج على الحديث دون محاولة سبر أغوار دلالاته العميقة. ويرسم لنا كيليطو صورة الجثة تمشي بين السهول والجبال والوديان والأنهار، في الليل وفي النهار، إلى أن تصل إلى قرطبة حيث ستدفن. لكن الكتب «ستتابع السفر: سنترجم إلى اللاتينية، ووجودها هناك سيطبع بقوة النقاش الفلسفي». إذا كان ابن رشد مات في بلاده، فإنه سيحيا حياة ثانية عند اللاتين الذين استقبلوه ورحبوا به في الوقت الذي «قمنا بترحيله ونفيه». لقد تخلصنا من كتبه بإحراقها وترحيل ما تبقى منها رفقة جثته، بينما احتضنتها أوروبا وأكرمت نزلها. هكذا يمكن اختصار الصورة التي يرسمها كيليطو للموقف المعاصر من ابن رشد في العبارة التي ختم بها عمله النثري، وهي أن «دفن ابن رشد لم ينته بعد» وبصرف النظر عما تحمله هذه العبارة من شحنة عاطفية قوية، فإنها تعكس حنيناً مغربياً لاستعادة ابن رشد الفيلسوف والشارح الأكبر لفلسفة أرسطو، عسى أن تقع معها استعادة القدرة على مجاراة ركب الحضارة الحديثة الذي تخلّفنا عنه كثيراً. يعكس إذن اهتمام كيليطو بابن رشد هماً إيديولوجياً واضحاً ينظر إلى فعل ترحيل جثمانه نظرة مأساوية. يوظف كل آلياته الابداعية للتضخيم من نتائجها وآثارها الدرامية على ساحة الابداع الفكري والثقافي في العالم العربي. فدفن ابن رشد دفن لقيم التجدد والانفتاح، وإحياؤه من جديد هو إحياء لأسباب الانقاذ من المأساة التي سببها الدفن المستمر لجثته. يفتح كتاب الباحث الدكتور عبدالنبي الحري صدره لشتى صور ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر. لم يكتب باحث مغربي بحثاً عن ابن رشد إلا وتردد له صدى في هذا الكتاب. ويلاحظ قارئه أن الدراسات الرشدية المغربية لم ترسم صورة موحدة منسجمة لفيلسوف قرطبة، ولكنها رسمت له صوراً مختلفة ومتنوعة، بل متناقضة ومتضاربة. وقد بلغت نزعة تمجيده أوجها عند محمد عابد الجابري الذي دافع في جميع أبحاثه عن أطروحة مركزة، وهي أن الرشدية شكلت قطيعة إبستمولوجية مع الفلسفة الإسلامية المشرقية، السينوية والفارابية، على المستويات كافة، المنهجية والمفاهيمية والإشكالية، ما يجعلها، أي الرشدية، مفتاحاً لتحررنا وتقدمنا الفكري والعلمي والسياسي نظراً لما تميزت به من روح إصلاحية وتجديدية على مستوى الحكمة وعلى مستوى الشريعة، لأن ابن رشد أعاد ترتيب علاقة الحكمة بالشريعة، كما كشف «مناهج الأدلة في عقائد الملّة»، ووضع قواعد ل«بداية المجتهد ونهاية المقتصد». ولاحظ علي أومليل أن المفارقة في الشخصية الثقافية لابن رشد، هي أنه كان يصبّح ويمسّي على الناس، وهو يلعب دور الفقيه. ثم هناك الوجه الآخر، وهو شخصيته الثقافية الحقيقية كما كان يراها لنفسه: وهي أنه فيلسوف يعطي لعلمه الفلسفي القيمة الأولى للفقيه مرجعيته، وللفيلسوف مرجعية معرفية أخرى. وينطلق محمد المصباحي في دراسته للتراث الرشدي من رؤية خاصة، ومنهج ينظر لابن رشد كمنطلق مرجعي باعتباره يمثل الموقف الفلسفي «الوسط العدل». وعنده أن ابن رشد كان يفكر لا من أجل الانحباس في مذهب عقيم أو ضمن إطار جغرافي/ تاريخي واحد». لم يكن يفكر لهذا الإنسان دون غيره، بل كان يفكر من أجل الحقيقة التي تشدّ إليها كل الناس. لقد كان يفكر للإنسان بما هو إنسانية ترنو إلى أفق ميثافيزيقي واحد» ونظرة المصباحي نظرة رحبة لا تضيق بالرشدية بل تنفتح عليها، وشتان بينها وبين نظرة طه عبدالرحمن الذي رأى أن من يتبع طريقاً في التفلسف، أسبابه عند غيرنا، لا يبدع، وإنما يبتدع، وكل ابتداع شذوذ. كما تساءل لماذا نستمر في السؤال عن أسباب غياب ابن رشد الفلسفي، لا عن الشرق فقط، بل عن الغرب الإسلامي أيضاً. وغيابه هنا أشد وأقسى، لأن هذا الرجل الملخّص والمفسّر (يقصد ابن رشد) عاش بين ظهرانينا وكتب لغيرنا. فكما بدأ أرسطو غريباً، أعاده ابن رشد غريباً، فهل تلك نقطة بداية أم نقطة نهاية»؟ ويبدو النقاش في الكتاب مثيراً وشيقاً، وإن لم يتقيد في غالب الأحيان بقواعد الصناعة الفلسفية نظراً لعدد من «الهواجس» التي تحكمت في مختلف مراحله وفصوله.