ضعف المستوى المهني للقوى العاملة يضر بمصالح الناس، وهذه قضية مسلم بها. وفي هذا صرَّح وزير العمل الدكتور غازي القصيبي قائلاً «أعتقد أن الموظفين لو تلقوا تدريباً سليماً فإنه يمكن الاستغناء عن 70 بالمائة من المنازعات القضائية». وذكر بأن الوزارة بصدد رفع كفاءة مكاتب العمل عبر عدة اتجاهات، منها تدريب الموظفين للقيام بأعمالهم. المصدر جريدة «الرياض» عدد الثلاثاء 17 من ذي الحجة 1426ه. وزير العمل يرى ويقر بأن هناك مشكلة تدن في الأداء المهني لشريحة كبيرة من موظفي وزارته. وهذه شجاعة من القصيبي قل أن يتصف بها قيادي لمؤسسة حكومية. إذ تعودنا على خلاف ذلك من المسؤولين، على الأقل في تصريحاتهم العلنية ولقاءاتهم مع وسائل الإعلام، تعودنا على منهج تبريري في القصور، يحمل الآخرين كل مسؤوليته. وإنني أحيي هذه الجرأة في الوزير. المشكلة مزمنة وعامة في المؤسسات الحكومية، ويبدو لي أن أكثر موظفي الحكومة (ويدخل في ذلك أصحاب مراتب عليا) لا يشعرون أو لا يقرون بوجودها، لأنهم ألفوا الأوضاع الراهنة، واستحسنوها، ولسان حالهم يقول قديمك نديمك، وأن ليس بالإمكان أحسن مما كان. وحتى لا يفهم التعميم في كلامي فإن ما قلته لا ينفي وجود كفاءات وطنية عالية المستوى مهنياً، وذات عقلية تطويرية، ولكنها وبصفة عامة قليلة، وكثيراً ما تكون غير مقدرة، و/أو غير مستغلة على الوجه الأمثل. قد يسأل سائلون علام أدعي؟ ما علامات ودلائل هذا التدني؟ خذوا أمثلة: -كثرة النقد الموجه إلى القوانين والقرارات والتعليمات الصادرة عن أجهزة حكومية، واتهامها بالارتجالية أو القصور، حتى ولو كان صدورها حديث العهد. -دأبت الأجهزة الحكومية على الاستعانة بمتخصصين أو مؤسسات استشارية، من الداخل والخارج، لتقديم خدمات استشارية وإعداد دراسات وتقارير في مجالات متعددة من اقتصادية أو زراعية أو مالية أو قانونية أو تنظيمية.. إلخ، مما كان مفترضاً أن ينجز أكثره بواسطة موظفي الأجهزة الحكومية المعينين على وظائف مهنية تخصصية، وهذا الافتراض يستند إلى ويتفق مع توصيف وظائف هؤلاء، كما أنه المطبق في دول أخرى كثيرة. - واقعا، تؤدى وتنجز كثير من أعمال الحكومة، على أساس خبرات مكتسبة وفق أساليب ووسائل وطرق وأدوات ومهارات بسيطة ومتخلفة عفى عليها الزمن. أي أن العمل ينفذ بوتيرة لا تتطلب مهارات عالية أو حديثة. - في الجهات المرتبطة مباشرة بخدمة الجمهور كالمرور والبلديات، ما أكثر ما نسمع عن تجارب (سيئة) مرت لأناس تؤكد أن مهارات وقدرات كثير من منسوبي هذه الجهات ضعيفة. ما أسباب تدني المستوى المهني الحكومي؟ هناك أسباب كثيرة، من أهمها: -أغلب تصنيفات الوظائف الحكومية لم تأخذ بعين الاعتبار وجود حقول أو مهارات تخصصية ضمن التخصص العام تكتسب خلال الدراسة الأكاديمية أو أثناء العمل. فالتوصيفات المبينة في «دليل تصنيف الوظائف في الخدمة المدنية»، المجلد الأول، الصادر عام 149ه، مجملة ليس فيها اعتبار للمهارات الدقيقة أو المتخصصة، ضمن التخصص العام. -تتماثل أو تتشابه توصيفات ومسؤوليات الوظائف الفنية بغض النظر عن المسميات الوظيفية والمراتب. -ليست هناك آليات وأدوات مقارنة لتقييم مستوى الأداء المهني للأجهزة الحكومية. -مجلس الخدمة المدنية (الحكومية) ووزارته تطغى على أعمالهما الجوانب القانونية. - كون العاملين على الخدمة المدنية الحكومية خاضعين أيضا لها - لتقريب فهم المشكلة لنتصور ان العاملين في وزارة العمل خاضعين لنظام العمل. -معايير التقويم المتبعة للتعيين أو الترقية على أغلب الوظائف معيبة ولا تكفي للحكم باكتساب الكوادر السعودية المهارات المنشودة، كما أنها لا تكفي للتعرف على تطبيق المهارات المنشودة. أساليب أو طرق التقييم التي يعتمد عليها لإعطاء رأي يتصف بالنزاهة والموضوعية للتأكد قدر المستطاع من تحقق المتطلبات في المرشح للوظيفة هذه المعايير أو الأساليب المتبعة حالياً في أنظمة ولوائح الخدمة المدنية للتعيين أو الترقية على الوظائف الفنية التخصصية لا تعتبر كافية لمعرفة مدى أهلية واستحقاق المرشحين لشغل تلك الوظائف، بل هي أضعف وأدنى من أن يعتمد عليها. مثلاً عدد سنوات الخدمة هو أول المعايير المتبعة، ولكن عدداً كبيراً من الموظفين المعينين تحت مسميات فنية أو تخصصية من المشهور أن عملهم يغلب عليه أو يطغى عليه الجانب الإداري البيروقراطي، ومن ثَّم فإن أكثر المهام التي يؤدونها لا تطبق فيها المهارات والأدوات التي تعلموها في الجامعة. وحتى لو طبقوا شيئاً منها، فإنه يغلب عليهم الجمود في المعرفة والمعلومات، والسلبية في تحديث وتطوير مهاراتهم، ومن ثَّم فإن الأنسب أن ينظر إلى عدد سنوات الخدمة لدى أولئك الموظفين على أنها مؤشر للتعرف على قدر تكرار تطبيق ما تعودوا عليه. مقترحات بناءً على ما سبق لا بد من إعادة التنظيم في التسميات للوظائف. ويتزامن مع ذلك توصيف أدق للوظيفة، وإلى وضع مواصفات أدق في صاحب الوظيفة، بما يسير مع الاتجاه المتعارف عليه علمياً ومهنياً، وكما هو متبع في الدول والمنظمات الدولية المتطورة إدارياً. من المهم أن يشار إلى وجوب التفرقة بين الترقية الوظيفية البحتة والترقية الوظيفية الفنية، فيمكن أن يرقى الموظف إلى مراتب عالية لكن دون أن يعطى ألقاباً ومسميات لها متطلبات فنية أو مهارات غير متوفرة فيه التوفر الكافي. من المهم جدا تبني أساليب تقويم مهنية موضوعية، وأن يلتمس فيها تحقيق أعلى نزاهة ممكنة عند التعيين أو الترقيات على الوظائف الفنية والتخصصية. تحقيق الاقتراح السابق يتطلب إنشاء إدارة أو هيئة أو هيئات لتقييم المستوى والأداء المهني. وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة من الخبرات المتوفرة والأساليب المطبقة في الجامعات وفي الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وفي شركة أرامكو السعودية، كما أن في تجارب وخبرات الدول والمنظمات الدولية في تقويم وترقية الفنيين والمتخصصين ما يفيد ويعين على الارتقاء بالمستوى المهني في الحكومة. تدريب موظفي مكاتب العمل يعد خطوة رائعة، ولكن فاعلية هذا التدريب وتحسن المستوى المهني مرتبطان بإدخال تعديلات وتطويرات كبيرة في قوانين وبيئة الخدمة المدنية، وهذا عمل جبار يحتاج إلى جرأة وعزيمة قوية فهل يحمل وزير العمل القصيبي لواء هذا التغيير؟ ٭ دكتوراه في الاقتصاد الكلي والمالية العامة