هكذا كنا نسمي تلك البئر القريبة من بيتنا، وهي محاطة ببئر المصناعة، وبئر ملحاء، وبئر الشيخ وبئر ضموة، وبئر أخرى كنت أذكر اسمها وأنا أكتب السطر الأول ونسيته في السطر الثالث، كل هذه الآبار تقع في مسافة لا تزيد عن خمسمائة متر، وكان في إمكاننا ان نقول وبصدق ان بين كل بئر وبئر بئراً. كما يقول الفرنسيون عن باراتهم. وبالعودة إلى بئر أم رأسين، فإنه لم يكن لها إلاّ رأس واحد، وكانت واسعة وتليق بالسباحة، ولم يتنبه أحد إلى فحوى الاسم إلى ان جاء المطوع صالح بن محمد وهو رجل تقوى وخير، ويملك واحدة من أهم مزارعه على هذه البئر، وفي موسم جفاف كشف لنا بهمته وأبنائه عن الرأس الآخر، بعد ان أزالوا تراكمات كثيرة من قاعها، بل واكتشفنا ان للبئر حفرتين عميقتين مفصولتين بجدار أو ما يشبهه من الصخر الصلب. وبدأ الإمام في أوج فرحه، ومن لم يرَ في حياته مزارعاً في تلك النشوة لا يمكن ان يعرف معنى الفرح. وفي فقه اللغة للثعالبي ما يقودنا إلى ترتيب السرور، وأول مراتبه الجذل والابتهاج ثم الاستبشار وهو الاهتزاز، وفي الحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. تم الارتياح والابرنشاق ومنه قول الأصمعي حدثت الرشيد بحديث كذا، فابرنشق له، ثم الفرح وهو كالبطر من قوله تعالى: {إن الله لا يحب الفرحين}، ثم المرح وهو شدة الفرح، من قوله عز ذكره «ولا تمش في الأرض مرحاً». لكن فرح المطوع صالح لايضاهيه شيء من هذا، كان فرح من اكتشف حقيقة طوتها الأرض والمياه، ولا يضاهيه إلاّ نحن أصحاب المزارع المجاورة. واحتفلنا جميعاً بأن عاد لهذه السيدة المعطاء رأسها الآخر. وتذكرنا بزهو أولئك الذين حفروا بئراً داخل أخرى. وترحمنا عليهم، ولعل الفلاحة الشهيرة فاطمة بنت ابن حثول حفظها الله أول من غنى لهذا الإنجاز. حيث بادرت منذ الفجر بسقيا مزرعتها. كانت في كل صعود أو نزول تغنى كما يفعل المزارعون على كل بئر. لكن فاطمة لم يكن لها إلاّ مقطع واحد تردده ذهاباً وإياباً. كانت تقول «لا إله إلاّ الله يا عبيد» وعبيد هو اسم ثورها. وظلت تردد هذا النشيد إلى ان سألتها أمي بصوت عال، يا فاطمة. أليس لديك نشيد آخر. صمتت بعدها فاطمة. وتساءل بعض الماكرين من المزارعين ما إذا كان لكل امرأة رأسان، وانتقل السؤال للنساء بمكر أعظم.