قبل أن أدلف إلى جلسة «التراث الموسيقي والفنون الشعبية» التي أدارها نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبد المحسن، الدكتور محمد آل زلفة وشارك فيها الدكتور محمد الصويان والأستاذ عبد الرحيم الأحمدي والأستاذ أحمد الواصل، وذلك مساء يوم الأربعاء 2-2-1433ه، قبل أن أدلف إلى قاعة الجلسة، تأملت الخيمة التراثية بمكوناتها القديمة دون تزويق ولا رتوش ولا إكسسوارات، فحمدت الله على ذلك، لأنني عايشت هذه الحقبة الزمنية. نعم لم أعش في الصحراء ولكنني رأيت الرّحى - على سبيل المثال - وعندئذ تذكرت قصيدة محمد حسن فقي بعنوان «الرحى والطحين» التي يقول في مقدمتها: يا دميَ المسفوك في الكبش.. الذي يطحن ضِرْسي كيف لم أرحمك.. بل كيف تغذّيتُ بنفسي؟ أكل المأكولُ من أصلي.. ومن فرعي.. وعُرْسي من قبور النفر الماضين.. من عشبٍ وغَرْسِ نبتا من هذه الأجساد.. من ظُلْمِة رَمْسِ(1) لقد استعار الشاعر لفظ «الرّحى» التي كانت تطحن الحب والشعير والذرة، فتخيلها تطحن ضِرْسه.. وبالطبع عايش الرّحى، والقصيدة مطبوعة في ديوان «قدر ورجل» عام 1386ه - 1967م، أي في عصر تحضّر فيه الناس وأصبح الحبّ والشعير والذرة، يُطحن بمطاحن كهربائية.. لكن «البيئة» التراثية أوحت للشاعر استعارة اللفظ، ولنقل اللفظ القاسي للتعبير عن معاناته!! ومثلما شاهدت الرّحى، شاهدت أيضاً هندول الطفل والوجار والمنفاخ وكانون النار والسّماور والقِرْبة والزِّير.. إلخ، كما كانت دون أن تطالها يدُ «الحداثة» أو التزويق، التي أقف أحايين كثيرة ضدّه، ولكن مهادناً له على اعتبار تقريب التراث للأجيال الجديدة حسب ما أقنعني أحد مصممي ثياب الشباب الذي جعل منهم لا ينفرون من لبس الثوب بدلاً من سروال (بنطال الجينز) دون المبالغة الشديدة وتحميل كواهل آبائهم مبالغ مالية كبيرة لا سيّما في مواسم الأعياد!! إن جمال الماضي حينما يلتقي بالحاضر فهو امتداد له واستمرار لاستشراف المستقبل لكي لا تنقطع الصلة، بل هي سلسلة تتهادى عطورها ويتماهى شذاها في الأجواء فينشر عبيرها في الأنوف، لتبدو الآفاق جميلة رحبة، والأرض تحت الأقدام صلبة، في وطن كله عطاء بإيمان بالله وعمل صالح.. يرتقي أبناؤه بوفاء لتراثهم وتمسّك بحاضرهم وإعداد لمستقبلهم.. لا يتبختر المرح فيه بطراً وإنما يهتزّ الوجدان فيه زهواً بآمال ليس للطموح لها غاية وإنما هو وسيلتها، تنبذ «الميكيافيلية» من ذاتها، وتؤمن بأن المسلم أخو المسلم، وأن المؤمنين إخوة وأن التراث ما هو إلا جزء لا يتجزأ من حاضر وامتداد لمستقبل يجب أن تعي الأجيال «ماهيته» وكيف عاشه الأجداد والأبناء، لينعموا هم في بحبوحة من العيش والرّخاء ما كانت تتحقق لولا الله ثم كفاح أولئك الأجداد والآباء!! ومع الأسف الجفاء في قلب الوفاء تبدو بوارق العطاء بالسنا دوماً ببسمة ثغر جميل لفاتنة هي الأمل، وما أجمل فسحة الأمل وترقبها يا أيها الوفاء!! ودلفت إلى القاعة، فألقى الدكتور الصويان قصيدة لزهير بن أبي سلمى ثم أعقبه الأستاذ الأحمدي واستهل محاضرته بأداء صوتي لأغنية «لاَ لاَ يالخيزرانة» وهي من أشهر الموروثات الشعبية الينبعاوية الحجازية، خصوصا بالنسبة للتنوع في الرقص والأداء الصوتي بين البحر وما جاوره من أقاليم البر عبر الأقاليم الحجازية، وأشار الأستاذ عبد الرحيم إلى انعكاس ذلك على الأدوات الموسيقية المستخدمة في تأدية الغناء الحجازي، مثل الكسرات الينبعاوية وفن الخبيتي. وبالنسبة لعولمة الغناء العربي أشار أحمد الواصل إلى أن المرحلة الرابعة هي مرحلتها الحالية بعد أن قسّم مراحل الغناء السعودي إلى ثلاث مراحل: الأولى: تمثلت في التسجيلات، والثانية في انطلاق الفنانين والإذاعة الرسمية، والثالثة في انتشار الأغنية السعودية. مداخلة: من أهم المراجع التي تناولت الأدب الشعبي في الحجاز، كتاب «الأدب الشعبي في الحجاز» لعاتق بن غيث البلادي» - يرحمه الله - وفيما يلي عرض ملخص لهذا الكتاب القيّم»: يقع الكتاب في (435) صفحة بكامل فهارسه وموضوعاته، التي شملت الشعر والقصة والمثل وعادات الزواج وقضايا المرأة والكسرة والنشيد والمديح...إلخ. وفيما يلي بعض من موضوعات الأدب الشعبي في الحجاز: 1 - الشعر: ومن أمثلته: أ- القصيد: وهو غناء جماعي، ومن ألحانه قول السُّلَمي: أنا هَيَّضْ علي أمثالْ حيْنا ماكماهِنَّهْ بدعها واحد في قريتهْ يتبعْ سوانيها(2) ولحن آخر أو بحر، يقول منه هندى الزبيدى الحربي: نهار من الأيام وقت الغرابات عصيرا بعدما هَيَّف المال عنِّي(3) اعذِّل على قلب من الهم ما بات يراعي نجوم الليل لين أصبحنِّ به الود والاَّ ما شنوه القرابات هو جادل بين الضلوع استكنِّ(4) «وهذه القصيدة يتمية في لحنها وثقيلة في أدائها، وهم يحفظون هذه الأبيات منها للتدليل على تعدِّد الألحان». ب- النشيد: يغنيه شخص واحد منفرد، وقد أثبت المؤلف نشيد الرنك والراك للأستاذ عبد الرحيم الأحمدي الذي نحن بصدد الحديث عن محاضرته، من اليماني، وهو من روائع هذا اللون، يقول فيه: يا سِدْرْ يا سِدْرْ وِش قال الحبيِّب لا تعلاَّك لا لديم الشمال وحارت الدمعة وغَنَّى هو جاب يا سدر سيرهْ للهوى من عامنا ذاك والاّ ذكر غيرنا وأيام ما كانت وكنا محري بها جوس قلبهْ يشغلهْ لا ما تخطّاك لو هُوْ نسينا.. وطال البعدْ والمنزاح منا يطوي عليه الهوى، ذاك الهوى ما أحلاكْ ما أحلاكْ! أحلى من الشهد كِنّ القلب نايل ما تمنّى(5) ج- الكسرة: هي «مثنيات غزليّة لطيفة يتغنّى بها أهل المدينة وينبع وأرض الوُسَيْط(6). لها لحن طويل لا يطيع إلاّ أهل الأصوات الرّخيمة. فإذا غناها من تناسب صوته أحدثت شجواً وطرباً»(7). «ومن هذه الكسرات ذات اللفظ اللطيف والمعنى البليغ»: يا سيد زاد الحلا نونكْ وِشْ ذا السوادْ الذي في العينْ يوم اسمع الناسْ يطرونكْ سالتْ دموعِي على الخَدِّينْ(8) ومرّ أحدُهم بوادي واسط قرب الصفراء فرأى فتاة جميلة، فقال: الله يا شفت لي فلّهْ في وسط واسط مرابيها فلّهْ ومن فوقها ظُلّها يا سعد من هُوْ يواليها(9) فردت عليه: يا هَيْهْ يا مطري الفُلّهْ حذرا وروحك تعنّيها من دونها تُرْكْ مفتلّهْ(10) والموتْ في ديار أهاليها(11) وهكذا يعبّر أولئك البداة السذّج - على حد تعبير الأستاذ البلادي - عن مشاعرهم بكلام رصين عذب ولفظ ومعنى بليغين، فهم لا يعرفون الصنعة في الشعر، وإنما يقولونه نابعاً من قلوب ملهوفة ولواعج ظمأى(12)(*). و- الغزل: وأشعاره «لطيفة مستحسنة قليلة الإسفاف إلا في حالة التندر». ومن إجلالهم للمحبوبة، نَعْتُها بنعوت مذكّرة تمجيداً لها، كقولهم: يا زيد، يا مجمول، يا جميل، يا كامل الأوصاف، يا أدعج العينين، يا أريش العين، كناية عن غزارة هدب الرموش حتى صارت تشبه ريش الطير، ويصفونها بالأوصاف المحبّبة كقولهم: يا ظبي، يا غزال، يا سهيف الروح «الحشا»... قال شاعر من بشر: سيدى مرابيهْ من حوز الرقابْ ليا أم جرفانْ - من بير محسن ليا الوطيهْ ليا برقا الغميم - وليا تشامل يردنه على بيار عسفان وليا تيامن يرده فج ابن عبدالكريم(13) وللشاعر الشعبي محمد الناصر قوله: يا زين يا ليت ما شفناكْ ماني عقب شوفك مربحي يا ويلنا منك ومراعاكْ يبو عيون ذوابيحي لو صار من دونك الشباك بيّن وجيه المغاليحي الزين ما يختفي شرواك غاشيك للملح توشيحي(14) ومن شعر العشاق، تحابّ عاشقان حبّاً عنيفاً ولم يَبُحْ أحدُهما للآخر بلواعج نفسه واضطرام أحاسيسه. وعندما عزم الحيان على الرحيل، أحاقت الفاجعة بهما، ولسان حالهما يقول: وما دام النظر مسموح أشوفك كل يوم وأروح ونفد صبر الفتاة بأن لا تلاقي، فمرّت بقرب محبوبها وسلّمت عليه، وأردفت: «صحيح أن قومنا اليوم يفترقون؟ قال: نعم.. قالت: لي إليك كلمة، فقال: هات ما عندك، فقال: دخيلْ ما ترجي وشوفٍ يفديكْ أنا ليا قفّت تشفيْ عَلَيِّهْ فقال: وَحَياةْ معبودي وشوفْ أترجّاهْ إني عليك أشفى من أمّي عَلَيِّهْ وإنّي عليكْ أشفى من الوِرْعْ للديد(15) وأشفى من الصايم لشرب النسيِّهْ(16) ه- المزمار: من الألعاب التي يترفع عنها علية القوم، ويجتمع له غوغاء أهل المدن في مكةوالمدينةوجدة، يبدأ بالطبول والمزامير كالمقرون والشبّابة بألحان خاصة.. يدور الشبّان وسط الملعب بالشونة، وهي عبارة عن عصا غليظة طويلة، وهي المنساة، في لعبة «الدِّرق»، وكل معه شون يدرق بها صاحبه لئلا يصيبه، لكنه يصيبه إصابة خفيفة ترية أنه قادر على ضربه لو شاء، وإذ أُمِنَت الفتنة قد تستعمل السيوف. والمزمار لعب من ألعاب الفروسية الجيّدة للتمرن عن الدفاع (الدّرق) عن النفس.. لكن هناك محاذير يجب أخذها بعين الاعتبار، فالشونة قد تطال رؤوس الرجال، ويختلط الحابل بالنابل، ويتهشّم رأس شخص أتى للمشاهدة، فينقلب الفرح ترحاً!!(17). هذه نظرة عامة شاملة في كتاب الأدب الشعبي في الحجاز، اكتفيت فيها بعرض مختصر لخمسة من فنونه، هي الشعر والإنشاد، والكسرة، والغزل، والمزمار... وبقي الكثير الكثير لمن أراد أن يطّلع على الكتاب. ولكن العبرة في هذا العرض هو تسليط الضوء على جزء مهم من حياتنا التراثية في منطقة مهمة من بلادنا العزيزة، كتلك المناطق التي لا تقل شأناً عنها مثل الوسطى ففيها العرضة، والجنوبية ففيها رقصة الخناجر، والشرقية ففيها أناشيد البحّارة... إلخ. ولعل إنشاء قناة تلفازية مستقلة تعنى بالفنون الشعبية أصبح أمراً معقولاً يتماشى مع الواقع مع ثبات تراث أي أمة من الأمم لأنه امتداد لحاضرها واستشراف لمستقبلها وتواصل له، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ****** الهوامش: 1 - محمد حسن فقي، ديوان «قدر ورجل»، طب1، الدار السعودية للنشر، ص 368. 2 - عاتق بن غيث البلادي، الأدب الشعبي في الحجاز، طب2، دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع، 1402ه - 1982م، ص 9 . 3 - الغرابات: جُبُلٌ سود صغار قرب بدر مما يلي ينبع. 4 - السابق، ص 17-18 . والجادل: المرأة الجميلة التي جدلت شعرها. 5- السابق، ص 21، ومعنى كِنّ: كأنّ، وسدر المخاطب هنا: جبل قرب الجموم. 6 - الوُسَيْط: تصغير وسط: الأرض بين مكةوالمدينة. (السابق، ص: 52). 7 - السابق، ص 52 . 8 - السابق، ص 52 . 9 - السابق، ص 53 . 10 - جيش من الترك منتشر: كناية عن شدّة بأس من حولها. (*) من محفوظات كاتب المقال من كسرات المدينة: يا سيد هرج القفا ما ابغاه والوشوشة ما تناسبني إمّا تِمَعْنَى وشوفْ لك زودْ وإلاَّ بكره من الصبح فارقني والكسرة: غاب قمر عشرين وأنا على الجودري مِتْكي أشاهد اللّي نسيمه هيل ولا غمزتُه قعدْ يبكي! والكسرة: العودُ منّي على الميهاف ومن حَتْرك العود بكّاني! كناية عن شدّة الحزن والشجن.. ومعنى «حترك» أي: حرّك!!. 11 - السابق، ص 53 . 12 - السابق، ص 55 . 13 - السابق، ص 174 . 14 - السابق، ص 75 . 15 - الديد: الثدي. 16 - السابق، 76-77 . النسيّة: اللبن يُخلط بالماء فيشربه الصائم عند الإفطار تحاشياً لشرب الماء الصافي لأنه يلهب المعدة. 17 - السابق، ص 531 .