كانت النجاحات الأولى التي سجلها «مارتن لوثر» بفضل نظريته في المقاومة السلمية المتمثلة في إجبارالمحكمة العليا على إصدارقراريُجَرِّم التمييزالعنصري في حافلات النقل العام دافعاً له للمضي قدماً في طريق المقاومة السلمية للحصول على كافة حقوق السود الامريكيين، إذ انتقل هذه المرة لولاية «ألباما»حيث نظَّم من هناك مسيرة ضخمة شاركه فيها جمع من البيض المتعاطفين مع قضيته خاصة من اتحاد البيض المسيحيين الجنوبيين وآلاف من طلبة المدارس في جميع مراحل التعليم الذين شجعهم «مارتن» على الانضمام إليه في مظاهرته السلمية التي طالب خلالها ومؤيدوه بإنهاء كافة أشكال التمييزالعنصري ضد السود، لافي حافلات النقل العام فقط، بل أضافوا لها طلباً آخريقضي بفض التمييزالعنصري المنتشرفي المرافق العامة مثل الفنادق وقطارات الركاب والمطاعم وغيرها، ولكن المسيرة لم تسلم هذه المرة من عنف الشرطة الإمريكية التي فاجأتهم بفض مظاهرتهم بعنف واضح مستخدمين في ذلك الكلاب البوليسية وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وفوق ذلك قامت باعتقال مارتن وإيداعه السجن الذي بدأ منه فصلاً جديداً من فصول تراجيديته المثيرة نحوتحريرٍكاملٍ لكافة السود والملونين من كل أشكال التمييزالعنصري الشائعة آنذاك على الأرض الامريكية ، فقد ألف من داخل سجنه في مدينة «برمنجهام» كتابه المعنون ب «ثورة الزنوج» وأتبع هذا الكتاب برسائل بعث بها إلى كافة رجال الدين الامريكيين حثهم فيها على الاقتناع بأن هناك «حقاً أخلاقياً لكافة المواطنين والناس عموماً يؤهلهم لرفض كافة النظم والقوانين التي تُشَرِّع للظلم» مما أكسب هذه الرسائل صبغة هائلة من تجذيرالإحساس بالظلم الواقع على كاهل كافة الملونين في أمريكا لاسيما وهي تأتي في سياق سلمي بحت لايملك حاملو لواء زمامه إلاأن يتصدوا للشرطة وهي تسحق تظاهرتهم السلمية بكل عنفية ممكنة وهم عاريو الصدور وقبلها عَرَّوا مشاعرهم وقلوبهم من الكراهية والحقد حتى لمن يسومونهم سوء عذاب الكراهية والعنصرية . لم تكد تمضي ثلاثة أشهرعلى حادثة اعتقال مارتن وسجنه أثناء تظاهرته مع الطلبة في مدينة «برمنجهام» حتى كانت الأقدارالماضية إلى نهايتها الإيجابية تلقي بمارتن واقفاً أمام منصة الخطابة الخاصة بمبنى « الكابيتول» في مدينة واشنطن إذ خطب خطبة مشهورة في جمع من أتباعه والمتعاطفين معه حثهم فيها على مواصلة السيرفي المقاومة السلمية لاغتصاب حقوقهم مؤكداً لهم فيها أن هذه المسيرة السلمية إذ هي تبتغي تذكيرالشعب الإمريكي بالمظالم التي تطال السود وهم يرزحون تحت نيرالتمييزالعنصري فإنها المسيرة السلمية يجب أن لاتتلطخ بأي من مظاهرالظلم والتوحش وأن لاتنزلق إلى أي وجه من أوجه الكفاح المسلح مما سيفقدها بالتالي أهم مرتكزاتها الإيحائية المتمثلة بالإلهاب المستمرللضميرالامريكي والعالمي بأن هناك قضية لشعب أولفئة داخل شعب واحد تنتهك وتمتهن لالشيء سوى تنافرها عن الجمع الغالب باللون فقط ، وأن هذه الفئة لاتستجدي أكثرمن عطف الضميرعليها كونها لاتجيد سوى البكاء والتباكي أمام الضربات الموجعة لقوى الشرطة والبوليس الامريكية عندما تستقبل مسيراتهم السلمية بالعنف والضرب والسجن ، وقد اتخذت هذه الخطبة لمارتن طابعاً إيحائياً رائعاً نتج عن تقديمه لها بطابع تجريدي مأساوي عندما عنونها بعنوان مثيرللشفقة ولنداء الضميرالإنساني هو(I have a Dream) أكد فيها أنه لايملك سوى أن يحلم بأن أولاده الأربعة سيعيشون يوماً ما في مجتمع أمريكي لن يحكم على مواطنتهم من عدمها من خلال ألوانهم التي منحهم الله إياها، بل بقدرما يعطونه من حقوق وواجبات لهذه المواطنة، وقد أدت بلاغة هذه الخطبة ومدلولاتها الإنسانية إلى أن تصبح قطعة موسيقية من الأدب الرفيع ووثيقة تاريخية ملهمة لكافة الشعوب المضطهدة للوصول إلى مبتغاها وحقوقها بأنجع الطرق وأيسرها كلفة ولكن بأثمنها وأعسرها معنوياً . تطورت المطالب السلمية لمارتن لتنحو هذه المرة نحو المطالبة بالحق الإاتخابي للسود الإمريكيين، ولأجل ذلك نظم ومناصروه مسيرة سلمية في عام 5691م ابتغت حث متخذ القرارالإمريكي على التحرك العملي نحوإقرارحق السود بالانتخاب ، وكان مقرراً أن تتخذ المسيرة طريقاً يمتد إلى أكثرمن ثمانين كيلومتراً لولا أن الشرطة تصدت للمسيرة بكل عنف فتوقفت المسيرة من جانب لوثر ومؤيديه بكل أريحية وسلمية، إلا أنه مع ذلك لم ييأس من استئناف المسيرة، فقدم التماساً للمحكمة الفدرالية بطلب السماح له ولمؤيديه بالتظاهرلدعم المطلب الانتخابي للسود وهوما سمحت به المحكمة مما جعله وجمعا كبيرا من أتباعه قُدِّرعددهم آنذاك بأكثرمن ثلاثمائة ألف شخص يبدأون المسيرة سيراً على الأقدام إلى «مونتجمرى» لتستغرق الرحلة ستة أيام قطع خلالها المتظاهرون أكثرمن ثمانين كيلومتراً ونقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية وقائع تلك المظاهرة مما اضطرالرئيس الامريكي آنذاك «لندن جونسون» للموافقة على قراريعطي كافة السود والملونين حق الانتخاب كأعظم إنجازيسجل لعظماء ورواد الحقوق المدنية السلميين بقيادة المجاهد الأكبر «مارتن لوثركنج». قبل هذا العام بعام واحد أي في العام 4691م كان الضميرالعالمي قد أيقظته بشائرومناظر «الطريقة اللوثرية السلمية» في التماهي مع الحقوق المغتصبة بلا نقطة دم واحدة أسالها أو أمربها ولذا فقد وافق هذا الضميروبكل أريحية وسروربمنحه جائزة نوبل للسلام تقديراً لجهوده في الحصول على حقوق مواطنيه بالطريقة الغاندية «النبوية الأصل» وتدشيناً أيضاً لفاعلية ونجاعة هذا الأسلوب في قدرة فئة قليلة ضعيفة على إرغام فئة كثيرة قوية مرهوبة الجانب على الاعتراف ومن ثم الإقراربكافة حقوقها المسلوبة مما لاتستطيع الحصول عليه لوأنها أدارت معركتها مع الآخرعلى قاعدة الندية العنفية والتي سيكون الخصم الأقوى مالكاً لحجة مقنعة مهما مارس من عنف باعتباره يرد بوسيلة متوافرة لديه بالقدرالذي هومتأكد فيه أن خصمه الضعيف لوخاتله قدره ومكنه منها فلن يتردد عن استخدامها ضده، إذ هاهويرد بكل ما أوتي من قوة ممكنة وبالتالي فالتكافؤ الحججي - النظري على الأقل - متوفروهو ما أدركه غاندي ولوثروكل السائرين على هذا الطريق السلمي الناجز. تابع لوثرمسيرته السلمية فيما بعد بالتركيزعلى تحسين المجال الاقتصادي والاجتماعي للسود فطالب بإعادة توزيع الثروة على أسس عادلة كما طالب برفع الظلم الاجتماعي الواقع على أفرادهم وجماعاتهم ومع ذلك فإنه قد رحل خصيصاً إلى مدينة «ممفيس» لمقابلة جماعات العمال المضربين عن العمل لحثهم على ضبط النفس وتجنب العنف والاكتفاء بالإضراب المدني تحقيقاً لنهجه السلمي في المقاومة، والنأي به من أن تشوبه شائبة العنف فتختطف مساره القائم على الحب والتسامح إلى المسارالمباين حيث لا أرضاً تُقطع ولاظهراً يُبقى، ولكن كما اختطفت أيدي التعصب الهندوسي مبشر السلام الهندي «غاندي» فقد امتدت يدٌ متعصبة أخرى لتخطف «لوثر» وهوإذ ذاك واقف على نافذة فندقه ينتظربعض مساعديه وحاملي رسالته لاستئناف مسيرتهم السلمية نحوالتفاوض مع العمال المضربين بإقناعهم بحذوصراط المقاومة السلمية المستقيم.