(1) أعتقد أن مسألة تطوير التعليم ليست مرتبطة فقط بالموازنات المرصودة له والدليل هو أنه في كل عام يقتطع التعليم نصيب الأسد من ميزانية الدولة ورغم ذلك مازلنا نراوح مكاننا. وفي هذا العام على وجه الخصوص احتل التعليم المرتبة الاولى ب 87 مليار ريال (حوالي 25 مليار دولار تقريباً) وهذا رقم كبير جداً يفوق موازنات دول كثيرة مجاورة ويفترض أن ينعكس على قيمة التعليم وتأثيره على المجتمع، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة فالإشكال الذي نعانيه هو في «بيروقراطية التعليم» التي تجعلنا دائماً نصرف الأموال فيما لا ينفع. ولعلي أنوه هنا أن هذا الرقم الكبير الذي خصص للتعليم هذا العام لن ينعكس مثلاً على «تطوير البحث العلمي» فالجامعات غير مستعدة لهذا الأمر أو هي وصلت مرحلة من السكون إلى درجة أنه يصعب أن توقظها ميزانية كبيرة، وربما تكون فقدت القدرة على الحركة أصلاً وترهلت بصورة تمنعها من الاستجابة «لفائض الميزانية» وإذا فرضنا وأن هناك بعض النبض في بعض الجامعات و«مؤسسات البحث العلمي» فإن «التركيبة البيروقراطية» التي تشكل مؤسسات التعليم سوف تجعل من الموازنات مجرد أرقام لا تؤثر حقيقة في تطوير البحث العلمي، هذا إذا ما افترضنا أن هناك من يرغب في اجراء بحوث ودراسات قد لا تهم أحداً مطلقاً في ظل غياب أي تكامل حقيقي بين المجتمع (ومؤسساته الاقتصادية على وجه الخصوص) وبين حركية التعليم وفلسفته في بلادنا. (2) لا أريد أن أكون متشائماً وأعدد الجوانب السلبية دائماً لكني كذلك لا أريد أن أبني آمالاً واهية ليس لها أساس من الواقع وأنا أعلم أنه لن يتغير شيء إلا فيما يخص القشور التي «تصنفر» وتلمع كي تبدو براقة دون أن يتغير مسار التعليم الجامد. الأمر هنا مرتبط بفلسفة إدارة التعليم (من يفكر للتعليم ومن يديره) من جهة وبين هدف التعليم نفسه الذي يفترض أن يكون هو الهدف النهائي للدولة، فما نريد أن نكون، وهو سؤال صعب يحتاج إلى قراءة عميقة لما يحدث في العالم وبحث متعمق لإمكاناتنا وكيف نستثمرها. هدف التعليم يفرض علينا أن نضع أسئلة مثل ماذا سيكون عليه حالنا بعد عقدين من الآن (2025م). الأمم تتقدم ولديها استراتيجيات تعليمية متطورة وتريد أن تنافس وأن يكون لها موضع قدم في هذا العالم (الذي لا يرحم) وتبحث بجد عن مستقبل مشرق للأجيال المقبلة ونحن لا ندري ما هدف التعليم لدينا. وحتى لا يعتقد بعضهم أني أناقض نفسي أذكر القارئ العزيز أنني من الذين انتقدوا «مشروع استراتيجية التعليم العالي» الذي تعده الوزارة مع جامعة الملك فهد وهو انتقاد ليس لمجرد الانتقاد فكل مشروع له إيجابياته وله سلبياته والنقد كان في ترتيب الأوليات وتحديد الأهداف وآليات تنفيذ المشروع وليس لفكرة المشروع، فعندما نحدد الهدف تتشكل الاستراتيجيات وتترتب الأوليات وتتضح الآليات وهو الأمر الطبيعي لكن مشروع استراتيجية التعليم العالي الذي تبنته الوزارة «دون هدف استراتيجي» لأنه محاولة لحل كل مشكلات التعليم التي يمكن ينطبق عليها القول «ما هكذا تورد الأبل»، ولن أدعي هنا أني أفهم كثيراً في تطوير التعليم العالي لكنها وجهة نظر على أي حال. (3) ولعلي أعطي نفسي الحق (طالما أننا نتحدث عن وفرة مالية يمكن أن نستغلها لبناء مستقبل أفضل (بإذن الله) أن أطرح اسئلة للجميع هي: ما هدف التعليم غير القراءة والكتابة (مع أن كلهم يشتكي من مستوى الإملاء عند خريجينا) وتخريج «من لا يصلح للعمل» من الجامعات. بالله عليكم ما الهدف العام الذي يجب أن تكرس له برامجنا التعليمية وما المنتج الذي يجب أن تقدمه هذه البرامج للمجتمع؟ ولعلي أسأل كذلك كيف ستؤثر ميزانية هذا العام على تحديد هدف للتعليم (وهو أمر غير واضح أبداً وربما غير مطروق على الإطلاق)؟ ويبدو لي أن هذه الاسئلة تفتح كثير من التساؤلات المرتبطة بها، فهل نملك تعليم مؤثر وهل يوجد من يقيس تأثير التعليم بشكل دقيق، فأنا لا أنكر أن ما أكتبه هو نتيجة ملاحظات ونتائج من خلال المتابعة العامة ليس إلا. وأتذكر هنا أنه يوجد مجلس للتعليم في كل منطقة تقريباً (وهو أمر عرفته مؤخراً لأنه مجلس لا معنى له ولا فائدة مرجوة منه وليس له تأثير أبداً على مسار التعليم)، فلماذا هذا المجلس (مادام أنه لا يرصد الحاجة المحلية من خلال فتح قنوات مع المجتمع) وما أهدافه إذن. لقد تعبنا من اللجان والمجالس والهيئات ويبدو لي لو أننا دخلنا في مسابقة دولية حول عدد اللجان والهيئات سوف نحصل على المرتبة الأولى. (4) لنأخذ السعودة كمثال يمكن أن تكون هدفاً مرحلياً للتعليم ولنحاول أن نقيم التوجهات الحالية لفلسفة التعليم ومخرجاته وسوف نقترب جداً من حالة التعليم الجامدة التي يصعب عليها أن تتفاعل مع «دينامية المجتمع» وحاجاته. ولا أحتاج هنا إلى القول إننا لم نصل بعد إلى التفكير في ماذا وراء الحاجات المباشرة للمجتمع وأنه لدينا خطط مستقبلية لشكل المجتمع الذي نريد أن يصنعه التعليم لنا. بل حتى الحاجات المباشرة نفسها والتربوية منها على وجه الخصوص نجد أن تعليمنا يقف عاجزاً أمامها. ولعلي أسأل هنا كيف يساهم التعليم الآن في صنع بيئة تربوية صالحة تواجه «ثقافة الموت» أو «ثقافة اللامبالاة» ولا أعلم أن تعليمنا يصنع «ثقافة مدينية» يعتمد عليها (مع أن بعض المدارس الحكومية في الخارج تعلم طلابها آداب الطعام عملياً في سنوات مبكرة ولديها برامج يومية تربط البيت بالمدرسة على مستوى الآداب وليس حفظ النصوص التي اثبتت التجربة عدم جدواها). ولو حاولت أن أسرد الظواهر التربوية السلبية التي يعاني منها مجتمعنا لن أنتهي منها في هذا المقال وهي ظواهر يفترض أن يتعامل معها التعليم وأن تستجيب لها مناهجنا والأهم من ذلك «طرق التدريس» البالية التي مازالت تضع حداً بين «المنهج وبين الواقع». والحقيقة إن ما أذكره هنا مجرد أمثلة بسيطة لما يمكن أن تعبر عنه «مسؤولية التعليم» التي تحولت إلى مجرد وظيفة دون هدف، وهو تحول ندفع ثمنه باهظاً في وقتنا الحالي وأتمنى أن لا نضطر أن ندفع هذا الثمن بشكل دائم. (5) الأمر هنا ليس مرتبطاً بالموازنات (وهذا لا يعني أن توافر المال غير مؤثر بل على العكس لكن وجود مال دون هدف لا يجدي)، وفي اعتقادي أن «المال» لم يكن عائقاً حقيقياً في يوم بل أن «غياب الروح» هو الذي يجعل من التعليم دون معنى. في الماضي لم تكن مدارسنا وتعليمنا يحتاج إلى موازنات كبيرة لكن كان هناك هدف وهو بناء «أمة حديثة» وكان هناك حماس منقطع النظير لبناء هذه الأمة، ولكني لا أعلم أين توقف هذا الهدف ومتى. إذ إنه عندما ينتفي «هدف التعليم» ولا يكون هناك قيمة واضحة للمنتج يتناقص الإحساس بالإنجاز في نفوس ممتهني التعليم وعقولهم ويتحول عملهم إلى مجرد «أداء واجب» وهو أمر لا يمكن إصلاحه بالمال فقط، بل بإعادة الروح مرة أخرى وبناء خطط تنموية تعتمد على فلسفة جديدة للتعليم تجبرنا على التغيير، فأنا من الذين لا يعتقدون أن التغيير يمكن أن يحدث داخل مؤسسات التعليم نفسها (فقد عشش فيها السكون والجمود ولم تعد قادرة على الخروج عن مساراتها الحالية) بل من خلال إجبار تلك المؤسسات على التغيير. ويبدو أن الأمر هنا بحاجة إلى وضع خطة إصلاحية تعتمد على فهم عميق لمشكلاتنا الحالية وما نتمنى أن نكون عليه في المستقبل القريب (العشرين سنة المقبلة). الفرصة التاريخية المتاحة أمامنا يجب أن نستغلها فنحن دولة تستطيع التغيير وتملك الموارد المالية والبشرية التي تؤهلها لتحقيق أهدافها لذلك فإن كل ما نحتاجه «الإرادة ووضوح الهدف». (6) إدارة التربية والتعليم بصورتها الحالية لا يمكن أن تقدم الجديد إذ يبدو لي أنها «إدارة تهدئة» فهي تتجه لتهدئة التعليم لإقناعنا بالأمر الواقع ومن الواضح أنها تتبع سياسة «النفس الطويل» لامتصاص كل محاولات النقد التي امتدت على مدى سنوات دون جدوى. هذه الإدارة لا نتوقع منها الكثير ولا نعتقد أنها ستتعامل مع الموازنات الكبيرة بالصورة التي تحدث التغيير المطلوب الذي لا يعني «التغيير المستعجل» أو «التحول غير المحسوب» بل قد يكون مجرد «ترتيب للاولويات» بدلاً من هذه الفوضى التعليمية التي تعدنا حقل تجارب دون نتائج مهمة (العشر السنوات الماضية مررنا بتجارب تعليمية تعبر عن أحلام واضعيها لا عن حاجة مجتمعية حقيقة فما زالت هيكلة التعليم وخططه مفصولة عن المجتمع ومازال المواطن مهمشاً ولا يؤخذ رأيه فيما يتعلمه أبناؤه). يبدو أن كل إدارة جديدة تريد أن تأخذ نصيبها من التجارب فطالما أن الأحلام فردية وأنه لا يوجد رقيب على هذه الأحلام فمن حق مسؤولي التعليم أن يمارسوا «أحلامهم». ولعلي أذكر الجميع بالتعليم الثانوي المطور الذي يفترض أنه طبق هذا العام فهو مشروع غير مبني على أساس ولن يقدم أي جديد لمجتمعنا. وقد ذكرت هذا الأمر لأحد مسؤولي التعليم وقال «إننا نحاول» وأنا أقول له لسنا حقل تجارب فمن أعطاك الحق أن تعبث بمصائر أبنائنا و(بأموالنا) دون أن تثير هذا الموضوع اجتماعياً ودون أن تتيح للأسرة فرصة المشاركة في اتخاذ القرار (فالقرارات الفوقية في التعليم لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية). الأمر الذي أخشاه أن تستثمر «الأموال الفائضة» في تجارب تعيدنا للوراء بدلاً من أن تقدمنا للأمام وهو أمر غير مستبعد مادام لا توجد «رؤية» واضحة لما نريده من التعليم ومخرجاته. (7) كل ما عرفه هو أننا نملك كثيراً من الإيجابيات التي تجعل من المستقبل أكثر إشراقاً، ولا أعلم كيف يمكن أن نسخر هذه الإيجابيات الكثيرة لتحقيق هذا الهدف، فقضية التعليم وملابساتها الكثيرة التي يربطها بعضهم بالموازنات ونقص الأموال في السابق قد يكون فيها بعض الصحة خصوصاً في مسألة «المبنى المدرسي» وتقليل التكدس الطلابي وبناء بيئة تعليمية متطورة وتقنية لكن كل هذا القضايا «المادية» دون جدوى طالما أن العنصر البشري غير مدرب وغير مؤهل كي يتعامل مع تقنيات التعليم الحديثة ويظل التعليم بشقيه البشري والمادي غير مؤثر مادام أنه لا توجد أهداف كبيرة ترتب الأوليات وتصنع خطط للتنفيذ بعيداً عن الاجتهادات الشخصية (التي تعبنا منها). ولا أحتاج أن أذكر القارئ مرة أخرى أن الأهداف الواضحة هي أفضل رقيب فهي لا تتيح للعابثين أن يغامروا بمستقبل بلادنا وتتيح لنا محاسبتهم بوضوح وتقطع عليهم الطريق لاستغلال «المنطقة الرمادية» الواسعة التي عليها تعليمنا الحالي.