عادة ما تكون «المفاهيم» ذات بعد مركزي في فهم أي خطاب ثقافي أو ديني أو سياسي، فهي التي يشكل من خلالها بنيته الأساسية ومنطقه الداخلي، والخطاب التكفيري يمارس تشويهاً واختطافاً لعدد من المفاهيم الشرعية والتراثية ويحاول من خلال ذلك تجييرها لأهدافه التي يسعى إليها، وهو في سبيل ذلك يمارس غالب الأساليب غير العلمية وغير الموضوعية من الاجتزاء والتعميم وغيرها. وكما تناولنا في المقال السابق مفهوم «الجهاد» بشيء من الاختصار، نتناول هنا مفهوماً آخر، لا يقل أهمية إن لم يكن أهم بكثير من مفهوم «الجهاد» ألا وهو مفهوم «ملة إبراهيم» الذي يعدّ أحد تلك المفاهيم التي يمركزها خطاب التكفير في أدبياته ويسعى لجعلها مركزاً أساسياَ من مراكز تفكيره وتسويغ قناعاته وتسويقها ورؤيته للواقع الذي نعيشه اليوم، كما يقدم من خلال كتابات رموزه العقدية والفكرية تفسيراً مشوهاً ومجتزئاً لملة إبراهيم، ومن خلال تتبعي لكتابات بعض رموزه قديماً وحديثاً ومحاولة جرد أدبياتهم، وجدتهم يصرون بغرابة على قصر مفهوم ملة إبراهيم على آية واحدة في القرآن الكريم هي قوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}.. وهذه الآية - دون شك - جزء من ملة إبراهيم ولكنها -بالتأكيد - ليست المفهوم الكامل والتام لملة إبراهيم، وتفسير المفهوم ببعض أجزائه تعسف يخل باستقلال المفهوم ووضوح دلالته، ولهذا فإنني سأحاول قبل طرح بعض المعاني التي يغيبها عمداً خطاب التكفير أن أطرح شيئاً من عبارات العلماء الكاشفة عن معنى الملة ومفهومها، فالملة في اللغة تعني: الشريعة أو الدين، والطريقة المسلوكة، ومنها ملة إبراهيم خير الملل، وتعني: الدين، وقيل هي معظم الدين، وجملة ما يجيء به الرسل، والملة والشريعة سواء. والإمام القرطبي يزيد على ما سبق بقوله عن الملة إنها: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله. وينقل ابن بطال قول ابن الأعرابي بأن: الملة معظم الدين والشريعة الحلال والحرام، وأخيراً وليس آخراً يضيف أبو البقاء الكفوي قوله إن الملة: اسم ما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتواصلوا به إلى آجل ثوابه. إذن فملة إبراهيم عليه السلام هي طريقته المسلوكة في الدين والإيمان، و«ملة إبراهيم، دينه»، قال ابن كثير: «وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها»، قال الطبري: «ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة». فنحن نرى أن هذا المفهوم يتميز أول ما يتميز ب«الشمولية» بمعنى أن ملة إبراهيم هي عبارة عن مجمل آرائه وأقواله وأفعاله التي تبتدي من طرائق التفكير والاستدلال مروراً بالتصرفات والأخلاق وانتهاء بالأحكام الفقهية الفرعية، وميزة «الشمول» هي الميزة الأولى التي يجني عليها الخطاب التكفيري في اختزاله التعسفي لمفهوم ملة إبراهيم في معنى العداوة للكافرين فحسب. وبعد ذلك تأتي المعاني الأخرى لهذا المفهوم التي تمّ تغييبها بشكل بارز من خلال التجاهل المطلق أحياناً، أو من خلال التأويل التعسفي لها في أحيان أخرى، كمعنى الرحمة والتودد والحلم والإنابة ومنهجية النظر والاستدلال والأحكام الجزئية الفرعية كأحكام أكل لحوم الإبل ونحوها كثير. فمعنى الرحمة معنى حاضر بقوة في دلالة مفهوم ملة إبراهيم من خلال عدد من الآيات منها قوله تعالى في ذكر دعاء إبراهيم عليه السلام : {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ? رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} فنرى أنه يدعو حتى لمن عصاه ويرجو له الرحمة والمغفرة في تجلٍ ظاهر لمدى الرحمة والعدل في تلك الملة التي مارس الخطاب التكفيري تشويهاً منظماً لها. ومن المعاني المغيّبة كذلك معنى التودد حتى مع المخالف الكافر، يحدثنا القرآن بقصته مع أبيه الكافر والمعاند في قوله تعالى عن إبراهيم مخاطباً والده: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً ? قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً ? قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً...} فنحن نرى كم في هذه الآيات من تودد رقيق من إبراهيم لأبيه في ندائه الملطّف له وأسلوب عرضه عليه وكيف أنه مع معاندة أبيه وإصراره على الشرك يقول له: سلام عليك سأستغفر لك ربي، ولئن كان إبراهيم نهي عن الاستغفار بعد موت أبيه فإنه لم ينه عن التودد والسلام. بل لقد بلغت الرحمة بإبراهيم أن يجادل ملائكة الله تعالى حتى لا يعاقبوا قوم لوط على عدوانهم وكفرهم فيقول الله تعالى عنه :{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ? إن إبراهيم لحليم أواه منيب}. ومن المعاني المغيبة لدى خطاب التكفير عن مفهوم «ملة إبراهيم» معنى الوفاء والصدق المذكور في قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفّى} وفي قراءة {وفى} بالتخفيف قرأ بها سعيد بن جبير وقتادة ومعناها صدق في قوله وعمله كما يذكر القرطبي71/311. كما أن مما يغيّب - كذلك - عن مفهوم ملة إبراهيم لدى الخطاب التكفيري معنى استخدام منهجية النظر والتفكّر لدى إبراهيم وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ? فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ? فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين ? فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ? إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين}. ويعلق الإمام أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - على هذه الآيات بقوله: «كل وقت وزمان أو حال ومقام حكم الامتحان فيها قائم، فللاجتهاد والاستدلال فيها مدخل، وقد قال إبراهيم عليه السلام حين رأى الكوكب: {هذا ربي} ثم تبين فساد هذا القول لما رأى القمر أكبر جرماً وأبهر نورا، فلما رأى الشمس وهي أعلاها في منظر العين وأجلاها للبصر وأكثرها ضياء وشعاعاً {قال هذا ربي هذا أكبر} فلما رأى أفولها وزوالها وتبين له كونها محلاً للحوادث والتغيرات تبرأ منها كلها وانقطع إلى رب هو خالقها ومنشئها». ومن ذلك استخدام إبراهيم أسلوب المناظرة والحوار كأساس فكري ودعوي لنشر رسالته وملته، فحاور أباه آزر وناظره، وحاور قومه مراراً، وحاور النمرود في آيات كثيرة في القرآن الكريم. وبناءً على هذه الشمولية والتنوع والرحمة والعدل التي تمتاز بها هذه الملة فقد جاءت النصوص آمرة باتباعها والتحذير من تركها: {قل صدق الله ? فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً}، (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه إلى الله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً}، {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه}. وأحسب أن ما تقدم - على اختصاره الشديد - قد أوضح بجلاء أن ملة إبراهيم لا تقتصر على موضوع العداوة فحسب، وإنما تشتمل على كثير من العقائد والأحكام الفقهية والآداب العامة والأخلاق الإنسانية وغيرها من المعاني التي يغفلها الخطاب التكفيري رغبة في ترسيخ فكرته الحديّة والمجتزئة عنها. وخطاب التكفير وكثير من الخطابات المتشددة التي تتقاطع معه، تمارس بشكل منهجي ومنظّم تشويه عدد من المفاهيم الشرعية أو التراثية ساعية بذلك لكسب نقاط اجتماعية أو سياسية أو فكرية ضد خصومها، بغض النظر عن مدى الجناية التي ترتكبها في حق تلك المفاهيم وفي حق المتلقي الساذج لخطاباتها المؤدلجة الذي يحسب أن ما يقدم له هو كل الحقيقة دون زيادة ولا نقصان، وأحسب أن من حق المتابع أن يرى المفاهيم بشكلها الكامل وأن يستمع لوجهات النظر المتعددة في تفسيرها وقراءتها وهو ما أحاول بشكل مختصر المساهمة فيه في سلسلة مقالات تعنى بهذا الشأن وتسعى إليه.