أمام مجرى الماء تضع طبقات الطين وبمعولها الذي يضع بصمته على الصخور يمر الماء صافياً.. رقراقاً.. عذباً في مجرى آخر جديد.. تجلس بجواره تغمس يديها في الماء لإزالة ما علق بها من الطين والاتربة. ٭ ٭ ٭ اتفحض جسدها النحيل وقوة ارادتها.. اتأمل قسمات وجهها.. تجاعيد حول العينين.. صمت يطبق على شفتيها.. انوي الاقتراب ثم اتراجع الى الخلف كيف لامرأة تحمل كل هذه القوة وتبقى الأرض جزءاً من حياتها!!. أقترب منها، اضع يدي على كتفها، اشعر برهبة من ملامحها المتحجرة المتجهمة الصامتة.. هل هي خرساء.. ربما؟ بيدي احمل اناءً صغير: من فضلك اريد رشفة واحدة من الماء.. تحمل الأناء.. تنحني قامتها على المجرى الجديد.. تقدمه لي وقطرات الماء تتساقط على يدها المتشققة.. انظر للماء وانا في وجل من ارتشافه؟؟ تدير جسدها لأرى جدار الصمت يحول بيني وبين معرفة حقيقتها!! تضع المعول على كتفها الأيمن وبيدها الأخرى تمسك بيد طفلتها التي اراها بثياب ممزقة وشعر تملأه الأتربة.. حقاً انها لا تعي شيئاً مما حولها؟!! لقد تركت حياة المدن وانزوت في منزل صغير تحيطه أرضاً خالية من الحركة والحياة.. ولكن هي اجمل أرض رأيت، اشعر وانا اقف عليها براحة تغمر كياني وظلال حانية من اشجارها الخضراء المثقلة بالثمار الرائعة. ٭ ٭ ٭ تقف في منتصف الطريق.. ندير رأسها المغطى بقماش الصوف، بنصف ابتسامة تدعوني لمرافقتها للمنزل.. اخيراً نطقت.. ان صدى صوتها يتردد في أرضها بنغمة جبلية ذات عمق انثوي رائع.. اجيبها وبلا اكتراث. ٭ ٭ ٭ هاهي الشمس تتوارى خلف جدار المنزل وسعف النخيل يظهر ضوؤها الارجواني حيناً وتختبئ حيناً آخر لتمتزج امامي صورة الريف بكل ما فيه من جمال. نسيمات تنعش القلب، صدى طيور مغردة تبحث عن عشها الدافئ. ٭ ٭ ٭ ها انذا ادلف إلى المنزل، اشاهد امتعة متناثرة على الأرض، اواني تمتلئ (بالفواكه والخضار) حبال ممددة في الممرات الضيقة. مثقلة بالملابس.. احاول استيعاب ما حولي اجاهد ادراكي الذي يصارع مشاعر التوتر والنفور.. صوتها ينتشل قلقي، توتري، تشير بيدها للدخول في الغرفة المقابلة.. ادخل غرفة واسعة بعض الشيء اجد (ماكينة الخياطة)، ملابس مصفوفة بإتقان، تزدحم ااممي فساتين ذات الوان متعددة، اجد فيها روعة التصاميم ودقة العمل انظر اليها وانا في حيرة من امري. ٭ ٭ ٭ يدها الخشنة تلتصق بيدي، وتنفرج شفتاها بابتسامة احسست بأنها تخبئ خلفها سيلاً جارفاً من الهموم وآهات تندفن في تربة الصمت.. ٭ أي امرأة انت؟ ٭٭ انا الام التي تغدق على ابنتها الحب والرعاية وتقدم لابنها الذي يقطع مسافات شاسعة وصولاً للمدينة كل ما يحتاج من دعم مادي ومعنوي، في الأرض اعمل (فلاحة) ماهرة، العديد من الرجال يتقدمون لي من اجل رعاية اراضيهم. ٭ هل انت ارملة؟ - نعم، ولكن في الغرفة الأخرى اجد رجلاً يمنحني السعادة (أبي) رجل مسن ابقى بجانبه لرعايته والاهتمام بشؤونه. ويبقى بجانبي فهو (المسكن، الحب، الامان، الظل الذي اتشبث به في هجير الصيف والغطاء الذي احتمي به من برودة الشتاء او بالأحرى قسوة الحياة). ٭ لماذا الرفض اذاً؟ تبتسم وهي تقول ٭٭ هناك من يريد ان اعيد حفر احلامه لأغرس في تربة ابوته طفلاً ينشد من خلفه ظلال الامل.. وهناك من يعمل بالمدينة ويفتقد العمالة الجيدة للمحافظة على أرضه.. ومنهم من يريد الثأر لنفسه.. ٭ كيف؟ ٭٭ طمعاً في رزقي الذي منحه لي الله جلت قدرته، ووضع قيوده على قوة امرأة فاضت بعملها مئات الرجال. ٭ ٭ ٭ وها انذا في منزلي (خياطة بارعة) تعلم حتى آخر ساعات الليل لعمل اجمل الفساتين لسيدات المدن المجاورة. ٭ ٭ ٭ بمشاعري المخبأة انوي رسم تفاصيل هذه المرأة في الأرض الخضراء، اجدها حازمة تعمل بجد ونشاط تخفي ظلمة الاحزان في اقبية الصمت.. تفجر شبح الوحدة، بمعول القوة والرفض، لمن يحاول تشويه صورة ارتباط المرأة بالأرض وارتباط الأرض بجذور الانوثة الصامدة.