الصراع في عالم اليوم لم يعد صراعاً عسكرياً بحتاً ولا حتى اقتصادياً بحتاً, بل أصبح على وجه التحديد والدقة, صراعاً حضارياً شاملاً, والحضارة كما هو معروف تشمل كل مناحي الحياة اقتصادياً وعلمياً وثقافياً وعسكرياً وتكنولوجياً.. وغيرها, وكلها تصب في إطار واسع وعنوان عريض يسمى «حضارة». إذن فإن صراع الأمة العربية مع أعدائها على مختلف أنواعهم يجب أن يأخذ تلك الأبعاد الحضارية بمجملها بحيث لا يقتصر على جانب دون آخر؛ كون العرب بالإضافة إلى المقومات القومية المتكاملة التي يمتلكونها وينفردون بها عن غيرهم من الأمم, فإنهم يحتلون موقعاً استراتيجياً خطيراً وحساساً, ويسيطرون على إمكانات وثروات هائلة وهائلة جداً.. تمكنهم من تجاوز ذلك الواقع المتخلف الذي دائماً ما يوصمون به, وليصبحوا قوة فاعلة ومؤثرة في عالم اليوم. لا يمكن الإنكار أو التجاهل بأن هناك الكثير من التحديات الخطيرة التي تواجه الأمة العربية, والتي لازالت تتوالد بصور شتى, أهمها على الإطلاق تحدي الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله الذي يهدد حاضر ومستقبل الأمة, ويعمل على تشتيت وإهدار إمكاناتها ومقدراتها, وإشاعة الخوف والرعب في أوساط المجتمعات, وإلهاء الأمة عن قضاياها المصيرية, وأخطر ما في الأمر بأن الدول العربية تفتقد لإستراتيجية موحدة لتحديد مفهوم الإرهاب الذي يمكنها من وضع الخطط الكفيلة بمواجهة هذا التحدي الخطير الذي يريد الغرب وفي المقدمة الولاياتالمتحدة الأميركية من خلاله إنهاك العرب والمسلمين وإشغالهم بقضايا هامشية وإذكاء الصراع فيما بينهم بهدف القضاء على مقومات حضارتهم وتحويلهم إلى إرهابيين وقتلة ومجرمين, صحيح أن تحدي الإرهاب يتفوق على ما عداه من التحديات التي تواجهها الأمة, سواء اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو عسكرياً, لكن ما لم يكن مقبولاً أنه لا يوجد موقف عربي موحد ينطلق من إستراتيجية واضحة تحدد المهام والمسؤوليات المشتركة لخوض الحرب على الإرهاب ومواجهته بحزم وحسم واقتلاع جذوره ومسبباته وإصلاح البيئة الحاضنة له وتجفيف منابعه الفكرية والاجتماعية ومصادر تمويله, حتى لا يظل يُوّلد بؤراً جديدة تستنزف قدرات وإمكانات الأمة, وبالتالي يدفعها للانصراف عن صراعها الحضاري الحقيقي, لأنه لا يكفي هذه الأمة أن يقال عنها بأنها تملك ثروة مالية كبيرة مجمدة في شتى مصارف العالم ليقال عنها بأنها أقوى قوة مالية, لما يشكله ذلك من خطورة على حاضرها ومستقبلها, بل لا بد لها, وبشكل حتمي, أن توظف قوتها المالية النقدية في بناء الأسس والمقومات الحضارية لمجتمعاتها على امتداد الساحة العربية والإسلامية, بنوع من التكامل والجهد المشترك؛ وذلك كضمانة وحيدة لحاضر الأمة العربية, وسياج لمستقبل أجيالها, وتعزيز لقدراتها في مواجهة التحديات الخطيرة التي تستهدف القضاء على كل مقومات الكيانات الوطنية وتمزيق مجتمعاتها, وفرض واقع أشد إيلاماً وإظلاماً, فهناك أقطار عربية تمتلك من الإمكانات والموارد الطبيعية التي لو استغلت بصورة صحيحة لخلقت حالة متقدمة من التكامل والتعاضد, وأسهمت في انتشال كثير من الأقطار العربية الفقيرة من أوضاعها المتدنية معيشياً واقتصادياً واجتماعياً, ومساعدة أشقائها لتأمين جزء من المتطلبات الضرورية لشعوبها بما يمكنها من التحول إلى شعوب منتجة وفاعلة بدلاً من الاستمرار في طلب العون من الآخرين, وهناك أقطار أخرى تملك اليد العاملة الكبيرة لكنها تفتقر إلى القدرة المالية لاستيعابها وتشغيلها, ولو استطاع العرب وضع إستراتيجية شاملة وعقلانية لتحقيق التكامل العربي فإن ذلك كفيل بإدخال الأبعاد الحضارية المتكاملة في مواجهة التحديات التي تستهدف إضعاف الأمة وتدمير قدراتها.. ولأصبح العرب فعلاً قوة كبرى وفاعلة بالمعايير الحضارية المتعددة يقفون على أرض أصلب مستشرفين آفاق المستقبل الأرحب!!