«طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    فعل لا رد فعل    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا بعد جبل الدخان (الحلقة الثانية)
نشر في الرياض يوم 01 - 12 - 2009

في الحلقة السابقة تناولنا تداعيات وأبعاد حادثة جبل الدخان على الصعيد السياسي والإعلامي والدبلوماسي، وسنواصل في هذه الحلقة استقراء بعض التداعيات السلبية والأبعاد الأخرى مع التأكيد على أن هذه التداعيات لن تتوقف، وكل يوم تُظهر من أحشائها المزيد من التطورات التي نتناولها في مواضيع أخرى إن شاء الله.
على الصعيد العسكري والأمني:
كشفت هذه العملية الإرهابية عن بعض الأهداف والأبعاد الحقيقية المرجوة من استزراع ورعاية ودعم هذه الجماعة الإرهابية المتطرفة داخل النسيج اليمني المهيأ (اجتماعياً، واقتصادياً وجغرافياً) لنموها وتطورها، وتحولها إلى خنجر مغروس في خاصرة اليمن والمملكة العربية السعودية لتنفيذ أجندة خارجية مرسومة منذ سنوات طويلة للمنطقة برمتها، وإذا ما توقفنا أمام الظروف الموضوعية والمعطيات الأمنية والعسكرية لهذه العملية الإرهابية نجدها نُفذت في ظل أوضاع غير مواتية، وفي الوقت الذي وصلت فيه عناصر الإرهاب الحوثية إلى أسوأ مراحل ضعفها السياسي والعسكري، وكانت على إدراك مسبق بحقيقة الإمكانات والقدرات العسكرية، وطبيعة وحجم الرد السعودي إزاء أي اختراق أمني واعتداء عسكري على حدوده.. والحوثيون أكثر إدراكاً من غيرهم بأنهم لا يمتلكون التجهيزات الدفاعية الحربية، ويفتقرون إلى الحد الأدنى من الوسائل والمعدات والقدرات القتالية (المادية والبشرية) التي تمكنهم من نقل المعركة إلى داخل الأراضي السعودية أو تحقيق أية أهداف أو مكاسب عسكرية تخدمهم في هذا الصراع، وتبرر في الوقت ذاته مثل هذا الاعتداء الغاشم وخسائرهم الكبيرة جراء هذه المغامرة، ولكنهم كانوا مجبرين على الانصياع لإرادة حلفائهم في الخارج وتنفيذ أجندتهم وخططهم الموجهة لنقل الصراع إلى مرحلة نوعية خطيرة مدروسة بدقة، تجعل من حادثة (جبل الدخان) البداية العملية لهذا التحول العسكري - الأمني عبر استفزاز المملكة واستدراجها إلى دائرة الصراع بأي شكل من الأشكال التي تجلب معها التدخل العسكري المباشر لأطراف خارجية أخرى.
البعض حصر أبعاد هذه العملية الإجرامية في أهداف آنية مباشرة تتمثل في الترويج الإعلامي الذي يحاول من خلاله الحوثيون تأكيد وجودهم وإظهار قوتهم العسكرية أمام الرأي العام بأنهم لازالوا يمتلكون القوة وزمام المبادرة على المسرح العملياتي، وإيصال رسالة واضحة إلى أكثر من جهة إقليمية ودولية بأنهم قادرون على نقل الحرب والأزمة إلى خارج الحدود اليمنية واستجلاب لاعبين جدد إلى حلبة الصراع، هؤلاء البعض تجاهلوا الأهداف والأبعاد الأمنية والعسكرية الحقيقية البعيدة الأثر لهذه العملية التي تعتبر أحد أخطر أشكال الامتدادات الخارجية المباشرة للصراع اليمني الداخلي، التي تستهدف النيل من أمن واستقرار المملكة العربية السعودية باعتبارها أحد أهم المرتكزات المحورية الاستراتيجية للأمن القومي العربي والأمن الدولي في منطقة الشرق الأوسط برمتها عبر إشعال فتيل فتنة مماثلة للفتنة في صعدة امتداداً طائفياً لها في بعض أراضي المملكة المجاورة، وخلق المزيد من التدهور في الوضع الأمني للمنطقة الحدودية وتحويلها إلى ساحة صراع مزمن وبيئة مواتية لتفريخ قوى التطرف والإرهاب والعنف باختلاف مكوناتها وأهدافها العقائدية والفكرية والسياسية ومصالحها وارتباطاتها الداخلية والخارجية.
حين أقدم الحوثيون على تنفيذ هذا العمل الإرهابي لم يكن الرهان في تحقيق هذا الهدف على قوتهم الحقيقية، بقدر ما كان الرهان على حلفائهم وأنصارهم في الطرف الآخر من الحدود ممن سبق تجنيدهم في العمل لصالحهم، وكذلك على الرموز والجماعات ذات الانتماءات المذهبية.. الرهان كان أيضاً على البيئة الجغرافية الوعرة وعلى التكوينة القبلية والاجتماعية الفقيرة والمتخلفة والمتسلحة.. كما كان أيضاً على الفتنة ذاتها فهي كفيلة بأن تستقطب إلى مركزها قواها الاجتماعية الخاصة ومصادر تمويلها وعناصر قوتها واستمرارها داخلياً وخارجياً والمتمثلة ب(المرتزقة المأجورين، وتجار الحروب، وأعداء النظام وأصحاب الثارات السياسية والاجتماعية والقبلية والمذهبية، وأصحاب الأنشطة الاقتصادية والتجارية والأعمال غير المشروعة ذات الربحية العالية والسريعة) وغيرها من الجماعات التي لا يمكن لها أن تزدهر إلا في واقع الحروب والأزمات والفتن التي كلما طال أمدها ارتفعت تكاليفها ومواردها المالية وتعددت مصادرها، وبالتالي اتساع نطاقها الاجتماعي والجغرافي وتعاظم قوتها وقاعدتها الاجتماعية بين أوساط المتمصلحين والمستثمرين والمستفيدين منها من مختلف الشرائح.
قوة وفاعلية الرد العسكري السعودي والنجاح السريع في طرد عناصر الإرهاب الحوثية من الأراضي السعودية والاستمرار في ملاحقتهم وتدمير مواقعهم ومراكزهم وتجمعاتهم العسكرية وأوكارهم التي تسللوا إليها في المناطق الحدودية، وكذلك الإجراءات الأمنية المشددة في ملاحقة واعتقال الخلايا الحوثية النائمة والمتسللين، وإخلاء المناطق الحدودية من السكان، هذه وغيرها من الإجراءات الفاعلة والسريعة ألحقت الكثير من الدمار والخسائر في صفوف عناصر التمرد والإرهاب الحوثية وحالت دون نجاحهم في تثبيت أقدامهم داخل الأراضي السعودية، وبالتالي فشلهم الذريع في تحقيق الكثير من الأهداف العسكرية والأمنية التي كان يرجوها البعض من المغامرة الحوثية الخطيرة في (جبل الدخان).
لكن الهزيمة المبكرة للحوثيين أمام القوات السعودية، لا تعني بأي حال من الأحوال بأنهم تخلوا عن دورهم في تنفيذ أجندة حلفائهم داخل الأراضي السعودية، بقدر ما فرضت عليهم تغيير تكتيكاتهم ووسائلهم وأساليبهم العملية، وكل المؤشرات الميدانية تشير إلى أن الحوثيين دفعوا بجزء كبير من ثقلهم العسكري لتوسيع نطاق المواجهة الميدانية مع القوات السعودية ضمن جبهات مفتوحة، مستخدمين في ذلك أساليب حرب العصابات، حيث يكون بإمكانهم استثمار عناصر قوتهم والتوظيف السليم لخبراتهم القتالية الطويلة، ومهاراتهم التكتيكية والتنظيمية العالية واعتماد أسلوب الإغارات الانتحارية السريعة والخاطفة بأقل قدر من العناصر، واستهداف المراكز السعودية الرسمية ذات الأهمية الإعلامية والسياسية، والمواقع والمراكز الأمنية والعسكرية السهلة المنال داخل الحدود السعودية، انطلاقاً من داخل الأراضي اليمنية..
هذا النوع من الحرب الخفية، المتحركة والمتنقلة بين الحدود غالباً ما يكون ذا طابع انتحاري وتكلفة مرتفعة جداً بالنسبة لعناصر التمرد والإرهاب ولكنه ضروري بالنسبة لهم في مثل هذه الظروف لسببين رئيسين:
السبب الأول: يتمثل في الحفاظ على حالة التوتر في المنطقة، وإبقاء المملكة في حالة استنفار أمني دائم لوحداتها العسكرية المرابطة على الحدود وإظهارها أمام الرأي العام في حالة حرب مستمرة مع هذه العناصر، وفي أسوأ الحالات جر المملكة إلى حرب عصابات واسعة النطاق يستحيل معها الحسم العسكري والسياسي بشكل ناجز وسريع مالم يكن ذلك مصحوباً بهجوم بري واسع وشامل وبتدخل عسكري سعودي مباشر داخل الأراضي اليمنية وماقد يترتب على ذلك من ردود فعل وطنية ودولية سلبية ودمار وخسائر مادية وبشرية تصيب التجمعات السكانية والمدنية التي يتخفى فيها أفراد العصابة.
السبب الثاني: استثمار الخارج لهذا الشكل من صراع الحوثيين المفتعل مع المملكة في إنتاج خطاب سياسي إعلامي ودبلوماسي، يضخم من طبيعة الأحداث ويروج لها ضمن أوسع نطاق ممكن للفت نظر العالم إلى الطابع الخطر للصراع الدائر وتطوراته المتسارعة وآثاره المحتملة على الأمن الإقليمي، الأمر الذي يساعد على تشكيل موقف دولي ضاغط باتجاه احتوائه وتفكيكه بالأدوات والوسائل الدبلوماسية، وهو ما يصب في خدمة هذه العناصر الإرهابية المتمردة وحلفائها ويمكّنهم من تلافي نهايتهم العسكرية المحتومة التي عجلت بها حادثة (جبل الدخان).
احتواء مثل هذه التطلعات والأهداف التي يسعى الحوثيون وحلفاؤهم إلى بلوغها يتمثل في قضية محورية أساسية اختزلها فخامة الرئيس علي عبدالله صالح في خطابه بمناسبة تدشين العمل في مشروع تصدير الغاز الطبيعي المسال بقوله "لا مصالحة ولا مداهنة ولا وقف للحرب إلا بعد نهاية هذه الشرذمة الباغية والمتمردة والخائنة والعميلة في محافظة صعدة" .. هذه الكلمات الموجزة قطعت الطريق أمام محاولات هذه العصابة لتجنب هزيمتها العسكرية، وبددت أحلامها بالظفر بأية مكاسب سياسية تبحث عنها، عبر فرض التدخلات الخارجية، ولكن معطيات مابعد حادثة (جبل الدخان) بحاجة إلى إجراءات عملية واسعة على الصعيد العملي يحول دون نجاح الحوثيين في استدراج المملكة إلى حرب عصابات أو ردود فعل عسكرية غير مدروسة أو خاطئة يكون لها آثار سلبية على الرأي العام المحلي لا تخدم قضية المعركة، والتصدي الحازم للخطاب الإعلامي السياسي والدبلوماسي المضاد الهادف إلى أقلمة وتدويل الصراع، أو الموازنة والمقارنة بين الدور السعودي والإيراني في الصراع، وجعلهما في واقع الإدانة المشتركة، وإيضاح حقيقة التباين والاختلاف والتضاد بين الأهداف والدوافع والمخاطر المترتبة على كل منهما على حاضر ومستقبل اليمن وعلى الأمن والاستقرار الإقليمي.
على الصعيد الاجتماعي والعَقدي:
القاعدة الاجتماعية للمتضررين من الحرب غالباً ما تتوسع أفقياً ورأسياً وبتناسب طردي مع تطور هذه الحرب وزيادة حدتها وإطالة أمدها وتمددها جغرافياً واجتماعياً، وهذا التوجه مثّل أحد أهم أهداف عناصر الإرهاب الحوثية من توسيع حربهم باتجاه الحدود السعودية لقناعتهم المسبقة بأن أية مواجهة عسكرية يخوضونها مع الجيش السعودي ستجلب معها المزيد من القتل والخراب والدمار على التجمعات والمنشآت السكانية والمدنية التي يتحصنون فيها، وعلى حياة المواطنين الذين يستخدمونهم دروعاً بشرية، ويدركون أن تشديد الخناق والحصار الاقتصادي والتمويني عليهم من قبل القوات المسلحة سيكون أثره أشد وطأة على السكان في محافظة ريفية فقيرة يصل تعدادها إلى حوالي ثمانمائة ألف نسمة.
أحد الرهانات الرئيسة لجماعة التمرد والإرهاب الحوثية في تحقيق بعض المكاسب السياسية والعسكرية، يتمثل في إطالة أمد الحرب وجعلها أكثر تكلفة بالنسبة للوطن والشعب على المدى المنظور والبعيد، بالتمعن في زيادة معاناة السكان وإلحاق أكبر دمار ممكن بممتلكاتهم الخاصة والعامة ومصادر حياتهم المعيشية ومضاعفة أعداد المتضررين النازحين، بهدف إحراج الدولة ووضعها أمام أزمة إستراتيجية مركبة تتجلى أبرز مظاهرها في:
زيادة العبء الاقتصادي الذي يقع على كاهل الدولة اليمنية المطالبة في المرحلة الراهنة بتوفير معسكرات الإيواء والخدمات والغذاء والدواء والحماية لمئات الآلاف من النازحين، وفي إعادة الإعمار لكل ما دمرته الحرب وتعويض المتضررين وتطبيع الحياة في مرحلة لاحقة، وما يترتب على كل هذا من تكاليف باهظة جداً في ظل ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة.. قد لا توجد أية إشكاليات بالنسبة للمملكة العربية السعودية في الجانب الاقتصادي، ولكنها قد تتشابه مع الحكومة اليمنية في تنامي المخاطر الأمنية، وتوسع المتطلبات والاحتياجات الأمنية الداخلية وما تفرضه من زيادة في الموارد اللازمة لمواجهة التحديات المحتملة، فالحروب غالباً ما تخلق شرائح سكانية كبيرة من المتضررين والناقمين والخاسرين، وهؤلاء يشكلون قوة اجتماعية مهيأة للاستقطابات الداخلية والخارجية المعادية، وإعادة الاستخدام والتوظيف السلبي من قبل أصحاب المصالح وتجار الحروب ضد بلدانهم أو البلدان المجاورة، ما يجري في صعدة مثل غيرها من الحروب والصراعات الداخلية التي توفر بيئة خصبة وآمنة ومربحة لنشاط مختلف قوى التطرف والإرهاب، وغالباً ما تتمخض عن بروز جماعات ومنظمات وتيارات فكرية وعقائدية إرهابية ومتطرفة حاقدة ومعادية للواقع والنظام السياسي.
توسيع نطاق الحرب والسعي إلى استجلاب العديد من الأطراف الخارجية إلى دائرتها يأتي في سياق المحاولات الحوثية المتكررة للدفع بالبلد نحو كارثة إنسانية خطيرة، ومحاولة تكوين رأي عام دولي ضاغط باتجاه فرض التدخلات الخارجية لوقف تقدم القوات المسلحة ومنعها من بلوغ أهدافها النهائية تحت شعارات "حماية المدنيين وإغاثة النازحين والدفاع عن الحقوق والحريات، والتصدي لجرائم الحرب" وغيرها من الشعارات التي ظلت على الدوام إحدى الوسائل الفاعلة التي تستخدمها الدول الكبرى لإرهاب الدول النامية والتدخل السافر في شؤونها الداخلية وابتزاز أنظمتها السياسية ورموزها القيادية والعسكرية.
منذ بداية ظهورها العلني وتمردها المسلح على الدولة في العام2004م وحتى الآن عجزت جماعة التمرد والإرهاب الحوثية عن أن تضفي على تمردها وحربها ضد الدولة الطابع الطائفي والمذهبي، وباءت كافة محاولاتها بالفشل في تقديم نفسها للعالم والمنظمات الحقوقية والإنسانية باعتبارها أقلية مذهبية مضطهدة. وخلال جولات الصراع المنصرمة لم يكن للإعلام الخارجي الموجه والمكرس لإضفاء الطابع المذهبي على الحرب في محافظة صعدة أي أثر يذكر على قناعات ومواقف الرأي العام الوطني.. ما عجزت عن تحقيقه عناصر الإرهاب الحوثية على هذا الصعيد خلال السنوات المنصرمة، يتولى اليوم النظام الإيراني مهمة تنفيذه من خلال استثمار حادثة (جبل الدخان) والتطورات العسكرية والسياسية والأمنية المتداعية عنها حتى الآن لإحداث نوع من الفرز والانقسامات الاجتماعية الداخلية والخارجية على قاعدة التوافق أو الخلاف المذهبي والطائفي وبناء المواقف السياسية على هذا الأساس، وانتهاج خطاب سياسي وإعلامي ودبلوماسي ذي طابع مذهبي موجه إلى الشعوب العربية ويعتمد تزييف الحقائق ويقدم إيران كوصية وحامية لكل الشيعة العرب، ويعطيها الحق للتدخل في الشؤون العربية الداخلية تحت شعار حماية الأقليات الشيعية وهذا الخطاب موجه لإذكاء المشاعر الطائفية للجماهير على حساب مشاعرها الوطنية الوحدوية، وإشعال فتيل فتنة مذهبية طائفية داخل كل قطر عربي.
في الوقت الراهن قد لا تظهر الأبعاد والأهداف العقدية لحادثة (جبل الدخان) بشكل علني وواضح على الصعيد الوطني والممارسات الشعبية ولكنها تتجلى بوضوح عبر وسائل الإعلام الخارجية وفي المنتديات الإعلامية المفتوحة، حيث تتسع يوماً عن يوم حالات الفرز والانقسامات المذهبية في مواقف وقناعات متناقضة وعدائية، وتأخذ منحىً عصبوياً أكثر تشدداً وتطرفاً، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير لاحتمالات بروز إشكالات داخلية في المستقبل، قد يتعاطى البعض مع هذه المؤشرات الخطيرة في الوقت الحالي بعدم اكتراث باعتبارها إفرازات ثانوية مرحلية سرعان ما تنتهي بانتهاء الحرب، لكن الوقائع تؤكد عكس ذلك، واحتمالات اتساعها وتطورها على المدى المنظور ستظل قائمة طالما توفرت البيئة المناسبة والشروط الذاتية والعوامل الموضوعية الكافية داخل هذا القطر أو ذلك، وطالما وجد من يتبناها ويخصها بالرعاية والدعم اللازم من خارج الحدود.
في هذا السياق يجب أن نتوقف أمام طبيعة ردود الفعل الشعبية والرسمية التي برزت في بعض الدول الخليجية إزاء التصريحات الدبلوماسية اليمنية التي تتهم بعض الجهات والرموز الشيعية في هذه الدول بتقديم الدعم المادي لجماعات التمرد الحوثية.. وقبل ذلك لا بد من التأكيد بأنه لا يوجد عربي عاقل يمكنه أن ينكر حقيقة الدعم الذي تتلقاه هذه الجماعة من خارج الوطن اليمني الأمر الذي مكّنها من الاستمرارية والمواجهة العسكرية للدولة والتشدد في مواقفها وإصرارها على فرض خياراتها وأجندتها على الواقع اليمني، واليوم وبعد خمس جولات من الصراع المسلح مع الدولة، وبعد ثلاثة شهور من الحرب ضد الجيش تكشفت الكثير من الحقائق والدلائل والبراهين والاعترافات الرسمية التي تؤكد حقيقة هذا الدعم الكبير الذي مكّن الجماعة الحوثية من تمويل النفقات الضخمة على مليشياتها وحربها المكلفة ضد الدولة، ولكن البعض يحاول أن يتجاهل مصادر وآليات وأطراف هذا الدعم وبالذات الذي يأتي من خارج إيران.
الدعم الذي يأتي من بعض الجماعات في البلدان المجاورة لا يمكن له أن يكون معلناً وواضحاً رغم أنه الأخطر والأكثر فاعلية وتديره وتقوم به شبكات سرية فوق قطرية لها قدرة على الحركة والتمويه وتتكون من عناصر نفعية تمتهن التهريب والتجارة غير المشروعة، وتقودها بعض الرموز والجماعات المشبوهة المجندة بشكل مباشر من قبل الجهات والمؤسسات الدينية أو الأمنية والاستخباراتية لدول خارجية، وبعضها الآخر يكون نشاطها نابعاً من قناعات دينية مذهبية متشددة ومتطرفة تجد ما تقوم به من جهود وأعمال مكرسة لدعم هذه الجماعات تدعي أنه يأتي في إطار (واجباتها الدينية المشروعة).
هذا الدعم المادي واللوجستي وإن اختلفت مراكز وبلدان وجهات تصديره أو اختلفت آلياته ووسائله وأساليبه العملية السرية من بلد إلى آخر، فهو من حيث أهدافه وأبعاده وطبيعته، يرتبط بحقيقة وجوهر وآليات العملية السرية المكرسة لنشر وإشاعة وتمكين الفكر المذهبي الشيعي الاثنى عشري بأجندته السياسية والأيديولوجية الخمينية في أكثر من قطر عربي، تحت إشراف وتوجيه مرجعياته الدينية ومؤسساته المالية والسياسية الرسمية التي أضحت لها رموزها وأدواتها التي تعمل من خلالها داخل كل قطر عربي يتواجد فيه أنصار هذا المذهب ممن يكون ولاؤهم للمذهب والخارج أكثر من ولائهم الوطني القومي.
لقد حظيت اليمن بموقف خليجي رسمي وشعبي داعم لموقفها وجهودها وخياراتها السياسية والعملية في التعاطي مع الفتنة منذ بدايتها الأولى في العام 2004م، وحتى الجولة السادسة من الصراع المسلح مع هذه الجماعة الإرهابية المتمردة، حيث ترجم هذا الموقف الخليجي في إجراءات عملية تنفيذية مباشرة إلى درجة تماهيه وتكامله وتوحده مع الموقف اليمني على أكثر من صعيد معلن وغير معلن داخلياً وخارجياً، ولم يحصل في أية لحظة من اللحظات أن اليمن رسمياً أو شعبياً شكك في المواقف العربية لأشقائه الخليجيين المحبين له والمخلصين لعروبتهم، وهو على قناعة بإدراك أشقائه لحقيقة خطر الحوثية كمشروع إيراني على أمن واستقرار بلدانهم وشعوبهم.. والتصريحات الرسمية اليمنية باتهام بعض الشخصيات أو الجماعات في التورط بدعم الجماعات الحوثية، لن تجافي الحقيقة فمثل هؤلاء المتخفين في نشاطهم السري موجودون داخل كل قطر بما في ذلك اليمن.
هناك أهداف مهمة وواضحة من وراء هذه التصريحات من الضرورة بمكان قراءتها بشكل صائب وسليم، فهي تحمل في مضامينها توضيحات جلية إلى الرأي العام في هذه الأقطار الشقيقة، عن طبيعة مخاطر الامتدادات المذهبية للصراع الدائر في جبال صعدة إلى داخل بلدانهم، فالأفراد أو الجماعات الداعمة والمتعاطفة مع -العصابة الحوثية- من خارج القطر اليمني يمتلكون بالضرورة مبررات كافية ومقنعة لقيامهم بمثل هذه المهام والأدوار الخطرة، وارتباطهم بهذه الجماعة يتجاوز حقيقة التعاطف المذهبي، ليصل إلى حد الارتباط السياسي والأمني المباشر بالأجندة الداخلية والخارجية الخاصة بهذه الجماعة، باعتبارهم جزءًا مكوناً لهذه الآلية الحوثية المكرسة لتحقيق مصالح إستراتيجية أجنبية على حساب دول وشعوب المنطقة.
التصريحات اليمنية تكشف حقيقة خطورة التوظيف المذهبي (الشيعي- السني) لامتداد الصراع إلى خارج الدائرة اليمنية، لا سيما بعد المواقف الإيرانية المعلنة المعبرة عن إصرارها في تنفيذ أجندتها في المنطقة العربية عبر التوظيف الأمثل للورقة المذهبية.. فعندما تدعي هذه الدولة أحقيتها في الدفاع عن الطائفية الشيعية وتتبنى شعارات حمايتها في كل قطر عربي، إنما أرادت من وراء ذلك فرض تدخلها في شؤون الدول الأخرى، وحماية عناصرها وعملائها وجواسيسها في هذا البلد أو ذاك بسياج كثيف من السكان ذوي انتماء مذهبي شيعي، الأمر الذي يسهل عليهم خلط الأوراق، وتصوير إجراءات الدول في ملاحقة الخونة المتآمرين والجواسيس بأنه استهداف للطائفة والمذهب الشيعي والترويج لقناعات وتوجهات سياسية تحاول من خلالها إظهار كل مواطن شيعي عربي عميل لإيران وعدو لأمته ووطنه.
الاتهامات اليمنية لم توجه بأي شكل من الأشكال إلى الطائفة الشيعية أو التشكيك بولائها الوطني وحبها وإخلاصها لأوطانها وعروبتها كما يدعي البعض منهم، وإنما كانت موجهة لبعض الرموز من الخونة المتآمرين على أوطانهم ويمثلون بفكرهم وأجندتهم السياسية امتداداً للعصابة الحوثية، وهذه التصريحات تأتي في سياق الحرص اليمني وتوجهاته في خلق مواقف ومبادرات شعبية تجسد الموقف الرسمي في مواجهة خطر التمدد الفكري العقائدي المتطرف للحوثية إلى الدول المجاورة، ،مثل هذه المبادرات الشعبية في مناقشة ودراسة خطر الحوثية بكل شفافية ووضوح، قد تكون ضرورية في هذه المرحلة لمواجهة خطر تمددها إلى هذه الدول المجاورة وتشكيل موقف ووعي شعبي لاحتواء نشاط وخطر العناصر (الحوث - ايرانية) المحلية داخل نسيجها الوطني حتى لا تظل تنخر في هذا النسيج بشكل سري وخطير.
ردود الأفعال الشعبية في بعض الدول الخليجية على الاتهامات اليمنية، وما اتسمت به من مواقف متباينة ومتشددة تجلت بوضوح عبر وسائل الإعلام الوطنية وصولاً إلى أروقة البرلمانات في بعض الدول، هذه الردود تمثل في رأيي ظاهرة وطنية إيجابية، تعبر عن حقيقة الوعي الشعبي الكبير في هذه البلدان بطبيعة المخاطر التي تشكلها العصابة الحوثية والأحداث في اليمن وآثارها السلبية على الأمن الإقليمي وعلى الوحدة العقائدية والاجتماعية لنسيجها الوطني في ظل استمرار اتساع دائرة الاستقطابات الإقليمية والخارجية، كما أن هذه الردود تمثل في بعض أشكالها ومضامينها ومفرداتها الثقافية والعَقدية المتطرفة أحد مظاهر الإفرازات والامتدادات السلبية الواضحة لهذه الأحداث على هذه البلدان.
المتابعة الرسمية والشعبية للبيانات والتصريحات وعدم إهمالها رغم كثرتها وتعدد مصادرها ورموزها، ومناقشتها في أعلى مستويات السلطة التشريعية، وعبر مختلف وسائل الإعلام كما هي الحال بالنسبة للتصريحات اليمنية تعكس مدى حرص هذه الشعوب على تحمل مسؤولياتها الوطنية والقومية في مواجهة إشكالات العصر والتصدي لمخاطرها المحتملة على بلدانهم، الأمر الذي يدلل على تميزها في تجاوز حالة عدم الاكتراث التي تتسم بها بعض الشعوب العربية التي تدفن رؤوسها في الرمال هروباً من واجباتها ومسؤوليتها الوطنية.
لقد تباينت قراءات الشارع الجماهيري في هذه الدول الخليجية للتصريحات اليمنية بتباين مكونه الثقافي العام وطيفه السياسي وخارطته الاجتماعية والمذهبية والجميع تناولها بالدراسة والتحليل انطلاقا من قناعته وانتماءاته الفكرية وثقافته ومستوى إلمامه بالقضية وتطوراتها السياسية المعتملة حولها، والكل تعاطى مع هذه التصريحات والاتهامات من منظور رؤيته لمصالح وطنه وشعبه. هذه القراءات والتحليلات والردود المتباينة شكلت في مجملها رؤية متكاملة لموقف ووعي وطني ناضج يسيرة قراءته والاستفادة منه من قبل رجال الدولة ومؤسساتها المختلفة في هذه البلدان.
مع أن الظاهرة العامة التي اتسمت بها هذه المواقف وردود الأفعال الشعبية كانت مسخرة لصياغة رأي عام رسمي وشعبي مدعو إلى أخذ هذه التصريحات بعين الاعتبار، باعتبارها مؤشرات على وجود مخاطر يجب الوقوف أمامها والتصدي لها قبل استفحالها.. إلا أن البعض القليل من هذه الردود كان مبنيا على القراءة المغلوطة لمضامين وأهداف التصريحات والاتهامات اليمنية، حيث وجدتها بعض الرموز الشيعية محاولة يمنية تستهدف إدانتها بسبب انتمائها المذهبي.. البعض الآخر -وهم قلة- ذهب إلى أبعد من ذلك حين أتهم اليمن بمحاولة زعزعة الاستقرار والوحدة الاجتماعية لهذه الدول من خلال ما أسمته مساعيه الهادفة إلى أقلمة الصراع في محافظة صعدة أو ما وصفه البعض "تصدير اليمن لمشاكله الداخلية إلى دول الجوار". والظاهرة الأكثر سلبية لهذه المواقف أنها في الكثير من الحالات كانت تستجيب لطروحات خارجية في تجسيد وتعميق التباين والفرز المذهبي، وتحمل في مضامينها مواقف وقناعات مذهبية مسبقة جامدة وموغلة في تطرفها على أساس من الانتماءات المذهبية(سنية أو شيعية).
* رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.