زيادة أسعار البترول هي لاشك في صالح الدول المصدرة وبالذات السعودية، ولكن ارتفاع الأسعار يجب أن يكون له سقف معقول بين المصدرين والمستوردين، لأن الزيادة الكبيرة جداً في الأسعار ستضر بالنمو الاقتصادي العالمي، وستعمل على تبطئته، وتراجعه إلى مستويات تنخفض معها الأسعار إلى حدود دنيا لا تسر المصدرين حين أدت أحداث الثورة الإيرانية عام 1979 إلى ارتفاع حاد في أسعار البترول عمد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إلى إصدار أوامر لمسؤولي الصيانة في المكتب البيضاوي بإقفال جهاز التدفئة، والاقتصاد في استعمال الطاقة في البيت الأبيض، في البداية استغرب موظفو صيانة البيت الأبيض من تلك التوجيهات وانصاعوا للأمر، أما الصحافة الأمريكية فواصلت حملة تندر وضحك ضد الرئيس، فدرجات الحرارة وصلت ذلك العام إلى مستوى منخفض في واشنطن العاصمة، واضطر كارتر إلى لبس معطف صوف من النوع الثقيل. قال كارتر - وقتها-: «إن مخزونات النفط الأمريكية ستستهلك قبل نهاية الثمانينيات» .. وبعد مضي ثلاثة عقود ثبت أن نصائح مستشاري كارتر كانت غير دقيقة ومبالغ فيها، وأن الشفافية كانت مفقودة فيما يتعلق بمقدرات النفط، وفي النهاية لم تظهر فاتورة كهرباء البيت الأبيض أي انخفاض رغم شح وبخل كارتر كما يقول موظفوه. أول هذا الأسبوع افتتح الملك عبدالله المقّر الدائم للأمانة العامة لمنتدى الطاقة الدولي بالرياض، وهي خطوة جديدة تسير في الاتجاه الصحيح للسياسة السعودية العالمية المتعلقة بالطاقة، فمنتدى الطاقة العالمي الذي تأسس في باريس عام 1990 ويضم تجمعاً غير رسمي لوزراء الدول المستهلكة والمنتجة للنفط يعكس ظاهرة صحية تتنامى أهميتها مع الوقت لحل الخلافات بين الدول المنتجة والمستهلكة وتقريب وجهات النظر لا سيما في جو يتصاعد معه الاستهلاك العالمي للنفط، وتتصاعد فيه كذلك الأسعار العالمية لكلفة الطاقة بشكل أسرع. هدف هذا المنتدى كما يقول المؤسسون هو العمل على زيادة الشفافية في أسواق النفط، وتوفير قاعدة بيانات عن إنتاج النفط والغاز والطلب ومستويات المخزونات لأكثر من 90 دولة. هذه الأهداف مهمة للغاية وبوسعها تخفيض حالة التوتر بخصوص الأسواق المضطربة وتعاظم الأسعار تحت أيدي المضاربين خلال السنتين الماضيتين. عدة أسباب أدت لهذا الارتفاع في الأسعار، والذي توقعته بعض المصادر قبل ثلاث سنوات من حدوثه، فهناك ازدياد في الطلب على الطاقة وخصوصاً النفط لا سيما من الدول الصناعية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين، ثم هناك قصور في الانتاج قادت إليه عوامل متعاقبة منها إضرابات فنزويلا 2002، وتوقف تصدير البترول العراقي أثناء الحرب، ثم عودته إلى مستوى منخفض جداً، وتقلبات سياسية في نيجيريا، ثم هناك ارتفاع أسعار التأمين في الناقلات الكبرى بسبب التهديدات الإرهابية، أما أهم الأسباب فهو قصور معامل التكرير والخزانات والناقلات القديمة عن مسايرة ازدياد الطلب. في تقريرها المثير للجدل - «استشراف 2005» - عبرت وكالة الطاقة الدولية عن تصور تراجيدي لمستقبل الطلب على الطاقة في العالم، فالتقرير يتوقع أن يكون الطلب على الطاقة في عام 2030 أكثر بالضعف مما هو عليه الآن، ففي 2005 ارتفعت أسعار النفط إلى مقدار الثلث، وبلغ سعر الخام الأمريكي 70 دولارا للبرميل في أغسطس، أما نسبة الزيادة في الأسعار العالمية فهي 36٪ مقارنة بالعام الماضي، أما تغطية الامدادات في 2030 فستبلغ حسب التوقعات 115 مليون برميل يومياً مقارنة بنحو 82 مليون برميل حالياً. الطلب العالمي سيرتفع بواقع 2,1٪ لكل عام، أي بواقع 2 مليون برميل يومياً لكل عام، بينما ينبغي أن تفي اكتشافات البترول - إن وجدت - بما يوازي 6 ملايين برميل يوميا لكي لا تزيد الأسعار عن مستوياتها المأمولة لدى المستهلكين - حدود أسعار عام 2000، ومستوى سلة أوبك 25 دولارا. ما الذي يحدد أسعار النفط في السوق؟ بصورة مبسطة هناك خمسة أسباب تحدد ارتفاع الأسعار أو انخفاضها: 1 - إنتاجية الآبار اليومية عبر عملية الحفر، ومدى تكلفتها التشغيلية. 2 - تكلفة نقل النفط الخام إلى المصافي. 3 - إنتاجية معامل التكرير والتصفية اليومية، ومدى تكلفتها التشغيلية. 4 - تكلفة نقل النفط من المصافي إلى الموزعين المركزيين، وكذلك تكلفة التخزين والتأمين. 5 - حالة الطلب والعرض في الأسواق، وهنا يأتي دور الشركات والمضاربين، وتأثيرات الأوضاع الإقليمية والدولية. كيف يمكن أن نفهم تأثير ازدياد الاستهلاك العالمي على الأسعار؟ .. يمكننا أن نأخذ مثالين هما الولاياتالمتحدةالأمريكية، والسعودية لنثبت أن الاستهلاك المحلي له دور أيضاً في الزيادة المطّردة. فأمريكا كانت تستورد ربع ما تحتاجه من النفط قبل أربعين عاماً، أما اليوم فإنها تستورد ما يقارب ثلاثة أرباع ما تحتاجه من الخارج، وفي الوقت الذي تطالب فيه الدول المصدرة بزيادة الاستثمار في معامل التكرير فإنها لم تقم ببناء أية معامل جديدة منذ 1976، في العام الماضي استوردت أمريكا من النفط السعودي 1,5 مليون برميل يومياً، أي ما يقارب 15٪ من الاستهلاك الأمريكي. على الجانب السعودي يمكننا أن نلحظ زيادة تبلغ الضعف في الاستهلاك النفطي الداخلي عن ما كان عليه الوضع بداية الثمانينيات، ففي عام 1980 كان الاستهلاك بمعدل 700 ألف برميل يومياً، بينما بلغ الاستهلاك 2,36 مليون برميل عام 2004. ولكن من أين جاءت هذه المخاوف بخصوص ال 100 دولار، وهل هي حقيقية؟.. كان جيفري روبن - كبير الاقتصاديين في بنك التجارة البريطاني - قد أصدر هذا العام تقريراً يتوقع فيه أن تواصل أسعار النفط ارتفاعها بشكل صاروخي حتى ال 100 دولار نهاية العام 2007. وقد أوضح جيفري روبن «أن الفجوة ما بين الطلب والعرض ستكبر بواقع 3 ملايين برميل يومياً بحلول العام 2008». بإزاء تنبؤات جيفري روبن فإن هنالك تكهنات بسيناريوهات مختلفة (قرابة السبعة حتى الآن) ويمكن أيضاً الاستشهاد بقول أكثر تشاؤما ل ديفيد كيم - نائب رئيس المجلس العالمي للطاقة - حيث يقول إنه: «لا يمكن استبعاد أن يصل برميل النفط إلى 100 دولار بسبب المضاربة في سوق الطاقة». وإن «الاحتياط العالمي لن يجاوز 41 سنة إذا ما أردنا الحفاظ على الأسعار والاستهلاك في نفس مستويات عام 2004». في الواقع يمكن أن أنقل للقارئ أهم السناريوهات التي أجدها جديرة بالمناقشة: أولاً، تصور «نوريل روبيني»، وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة نيويورك وهو مستشار اقتصادي عريق للحكومات الأمريكية، يرى البروفيسور نوريل بأن العالم يحتاج إلى ما يقارب 6 ملايين برميل يومياً ليستطيع تجاوز هذا العقد، ويحقق نمواً مقبولاً في الاقتصاد العالمي، وأن الامكانات قد تسمح فقط بتأمين 4 ملايين برميل على الأكثر هذا في حال نجحت مساعي منتدى الطاقة العالمي في التوفيق ما بين المنتجين والمستوردين، وبذلك سنشهد زيادة ال 100 دولار بحلول العام 2010 في أقصى تقدير. (يمكن للقارئ قراءة تصورات البروفيسور نوريل على موقعه الشخصي: www.rgemonitor.com ولشهرة الموقع فهو متابع كما تقول الصحافة من قبل مسؤولين حكوميين من الصف الأول في واشنطن). ثانياً، تصور وكالة الطاقة الدولية (IEA) والذي يقول إن على الدول المصدرة أن تستثمر ما يوازي 17 تريليون دولار خلال ال 25 عاماً القادمة في حقل الطاقة، وانه بذلك يمكن للأسعار أن تستقر إلى ما يقارب 65 دولارا بحلول عام 2010، ولكن الوكالة كذلك تطرح تصوراً تراجيدياً حينما تقول بأن انعدام مثل هذا الاستثمار قد يكلف هبوطا بواقع الثلث من هذا التقدير بحلول 2030. ٭ هل على العالم أن يخاف حاجز ال 100 دولار؟ في الحقيقية كل هذه السيناريوهات تأخذ بحسبانها أسوأ الظروف السياسية في المستقبل، ولكن إذا ما عدنا بالوراء إلى أداء الاقتصاد العالمي خلال السنوات الثلاث الأخيرة فبإمكاننا أن ندرك بأن الأسواق المالية ما تزال في حالة النمو، وأن الاقتصاد العالمي يزيد في طلب الطاقة نظراً لنموه السريع، أي ربما نواجه ظروف نمو اقتصادية لا أقول عظيمة، ولكن على الأقل قادرة على امتصاص تقلبات مصادر الطاقة على الأقل في العقد القادم. في نهاية القرن التاسع عشر كان كبار الاقتصاديين الرأسماليين في أمريكا وأوروبا يحذرون من نقص عالمي في امدادات الفحم الحجري، ولكننا اليوم وبعد مائة عام نكتشف أن امدادات الفحم الحجري تكفي ل 500 عام قادمة - بافتراض أدوات القياس الجيولوجية الحالية. وحتى في نهاية الستينيات كان هناك خبراء يحذرون من نقص وشيك في امدادات النفط بعد جفاف حقول كثيرة في أمريكا وباكو، ومواضع أخرى، ولكن مع مرور السنوات تبين أن هناك اكتشافات جديدة ووسائل أكثر تقدماً سواء في التنقيب، أو تكلفة الانتاج والتشغيل، الخبراء الأكثر تحفظاً يتحدثون عن تطور قادم لكيفية فهمنا للطاقة واستعمالاتها، فما يكلف تشغيله برميل نفط يومياً، قد يصبح في المستقبل مشغلاً بنصف، أو ثلث تلك الكمية، وتجارب من هذا النوع تشغل اليوم مراكز البحوث والدراسات كمصادر للطاقة الهجينة. ٭ ماذا بوسع السعودية كدولة هي أهم مصدر للنفط في العالم أن تفعل؟ زيادة أسعار البترول هي لاشك في صالح الدول المصدرة وبالذات السعودية، ولكن ارتفاع الأسعار يجب أن يكون له سقف معقول بين المصدرين والمستوردين، لأن الزيادة الكبيرة جداً في الأسعار ستضر بالنمو الاقتصادي العالمي، وستعمل على تبطئته، وتراجعه إلى مستويات تنخفض معها الأسعار إلى حدود دنيا لا تسر المصدرين، والسعودية تدرك ذلك جيداً وهي تعمل بشكل متميز جداً في سياستها النفطية خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة لأنها تقود سوق النفط العالمية بالفعل. السعودية ستكون قادرة على رفع الانتاج من 10,4 ملايين برميل يومياً إلى 11,9 مليون برميل يومياً بحلول 2010، وبوسعها أيضاً تحقيق ما يقارب من 18 مليون برميل بحلول 2030. وإذا كنا نتكلم عن الشفافية والتواصل، فبوسعنا أن نبدأ بوزارة البترول والمعادن، فهي وعلى رغم جهودها التفاوضية إلا أنها تفتقر إلى استراتجية إعلامية في التعامل مع وسائل الإعلام والباحثين، ويمكن للقارئ مطالعة موقع الوزارة ليجده ضعيفاً، بل وغير محدث، فالتقديرات السعودية على الموقع تعود لعام 2003 ولم يتم تحديثها، وحينما أردت رقماً حديثاً فيما يخص الاستهلاك المحلي للنفط، كان عليّ زيارة موقع وزارة الطاقة الأمريكية لأجد أن الموقع لا يحتوي فقط على توقعات الاستهلاك المحلي للنفط في السعودية بل يعطي تقديرات تصل إلى عام 2010، شركة أرامكو ربما تكون أكثر خبرة وتجربة في هذا المضمار، ، ولكن وزارة البترول والمعادن وليست أرامكو هي من يجلس إلى مائدة المفاوضات والنقاش مع الدول والمنظمات الدولية، والقارئ بإمكانه العثور على معلومات أكثر من مؤسسة النقد السعودي عبر تقريرها السنوي أكثر مما سيعرفه من خلال وزارة البترول والمعادن. إذا كان هدف وضع مقر الأمانة العام لمنتدى الطاقة في الرياض هو تعزيز التواصل بين المستهلكين والمنتجين، فإن على وزارة البترول والمعادن أن تحسن من ضعف محتويات موقعها، وخدماتها العامة للجمهور الداخلي والخارجي، ولا يكفي فقط ترديد الفقرات الخمس الخاصة بالسياسة النفطية للمملكة لا بد أن تكون هناك استراتيجية إعلامية، وبرامج بمستوى دولي لتعزيز الدور الفعلي الذي تلعبه السعودية كرابع أكبر احتياطي في العالم، وأكبر مصدر للنفط. [email protected]