بعد صدور تقرير القاضي الألماني «ديتليف ميليس» الذي عينته الأممالمتحدة لرئاسة الفريق الدولي المكلف بالتحقيق في قضية إغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الحريري، انبرى الكثير من الكتاب والصحفيين وجمع ممن تلقفتهم الفضائيات ليدلوا بدلوهم حول الموضوع لإسداء النصائح لسوريا حول الإستراتيجية التي يرون مناسبتها لاتقاء ما قد تحمله الأيام من شرر وضرر عليها اتكاءً على ذلك التقرير، وكانوا بالطبع في معرض سياق إسدائهم لنصائحهم بين مشرّق ومغرّب، أوبين من هو واقع في أقصى اليمين ومعاكس له في أقصى اليسار ممن يرى ضرورة الوقوف في وجه الاستكبار العالمي بمزيد من الشعارات العنترية والمزايدة على أيديولوجيات قوموية أكل عليها الدهر وشرب حتى شبع وارتوى!!!!. ما يهمنا من هؤلاء هم من يبدو أنهم مشفقون على سوريا وخائفون عليها في نفس الوقت من أن يزل بها قدم تقرير ميليس، إذ لاحظنا أنهم قد استخدموا لغة المقارنة مع ظرف يرونه مشابهاً للحالة السورية إمعاناً منهم في حثها على التعامل بعقلانية مع معطيات وتداعيات ذلك التقرير، هذا الظرف هو الحالة العراقية التي لم يجف بعد مداد حبرها، إذ انبرى أولئك النفر إلى تذكير سوريا بما آل إليه عناد الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي أغلق أذنيه حينها عن كافة النصائح التي كانت توجه إليه من محيطه الإقليمي والعربي بضرورة عقلنة التعامل مع الضغوط الأمريكية والبريطانية وقتها من أجل تجنب مزالق التوجه نحو الهاوية التي حلت بالقطر العراقي، والتي يرونها نتاجاً مباشراً لعنتريات صدام وصم أذنيه عن كل ما كان يوجه إليه من نصائح مخلصة ونتاجاً مباشراً آخر لعدم إدراكه آنذاك للمتغيرات التي طرأت على السياسة الدولية بتغير الأقطاب وتمحور القوة العالمية نحو قطب غربي واحد نتيجة لانتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي الداعم الرئيسي للكتلة المناوئة للغرب حينها ومن ضمنها العراق. مع تقديري لموقف هؤلاء وحرصهم على تجنيب سوريا مخاطرتبعات التقرير، إلا أنني لا أرى أي وجه للمقارنة بين الحالة السورية الحاضرة والحالة العراقية التي دخلت ذمة التاريخ، إذ أن الظروف الدولية التي تقتات عليها الأيديولوجية الداعمة للضعوط الدولية على سوريا الآن وهي هنا تقريرميليس، تختلف جذرياً عن تلك الظروف الدولية التي مررت من خلالها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا أيديولوجيتهما الضاغطة على العراق وقتئذٍ وهي ما كان يُعرف حينها بأسلحة الدمارالشامل التي قيل إن العراق كان يمتلكها وقتها، والتي تدخلت الدولتان في العراق بناءً على توافقهما على وجودها في حوزة الحكومة العراقية، الاختلاف بين الأيديولوجيتين يكمن في تقديري في عنصرين أساسيين : الأول: مضمون الأيديولوجية نفسها، ففي الحالة العراقية كان المضمون ينصب على ادعاءٍ أمريكي/بريطاني بوجود أسلحة دمارشامل في العراق، لكن ذلك لم يثبت حينها بموجب تحقيق دولي - بغض النظر تماماً عن التسييس المتوقع لمثل ذلك التحقيق - رفع للأمم المتحدة ومن ثم أقرت نتائجه وانطلقت منها لتقرير الخطوة التالية بحق العراق، بل كان الأمر مجرد ادعاءٍ استخباراتي براغماتي ثبت عدم صحته فيما بعد، ولهذا فلم يحظ بأي إجماع دولي، على الأقل من جانب الدول ذات العضوية الدائمة و المؤثرة في مجلس الأمن الدولي وعلى رأسها فرنسا التي وقفت بقوة ضد تلك الأيديولوجية وكانت على وشك استخدام حق النقض - الفيتو - عشية عرض قرار التدخل العسكري في العراق على مجلس الأمن، لولا أن الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا صرفت النظر عن عرض القرار وأقرت بدلاً من ذلك تدخلاً فردياً من جانبهما فقط، أما في الحالة السورية فالضغوط تتكئ على تقرير دولي أُعِدَّ بموجب تفويض رسمي من الأممالمتحدة أقر بوجود مسؤولية سورية في الحدث - بغض النظر مرة أخرى عن كمية البراغماتية السياسية وراء ذلك التقرير التي لا مانع مصلحياً ولا مفاجأة أيضاً من وجودها تبعاً لسياسة المصالح الدولية - وبالتالي فما كان مجرد ادعاءٍ في الحالة العراقية أصبح حقيقة في المسألة السورية، حقيقة مقررة من جانب المنظمة الدولية وعليها يقع عبء مسايرة الخطوات اللاحقة والمتكئة عليها . (يتبع)