"إنّ الفنون جميعها خرساء إلا النّقد فهو الوحيد القادر على الكلام" بهذه اللغة الجازمة يؤكّد الناقد الكندي نورثروب فراي على أهمية النقد باعتباره وسيطا قادرا على استنطاق النصوص الإبداعية والمقولات الثقافية فالعلاقة بين النقد والإبداع كما يراها البعض كالعلاقة بين التجاوز والرغبة في الاحتواء، فالإبداع يفتح مناطق نفوذ جديدة ويوسع حدود أرضيّته في حين أن النقد يسعى إلى إخضاع هذا الانفلات ورصد جغرافيته المتجددة. ولكن السؤال الذي يتشاوف حين يأتي الحديث عن النقد، لماذا ضمُر جسد النقد وبات مترهّلاً لا يتفاعل مع أي إبداع ويحاكمه بحب باعتبار المناقدة فعل حب؟ أين هو الأثر العظيم الذي يتركه النقد حين يقول كلمته ويشتبك مع المقولات الفلسفية والثقافية والنصوص الإبداعية وغيرها؟ ما الذي يجعل نُقّاداً كجاك دريدا، وميشيل فوكو، ورولان بارت، وتشومسكي، وميلان كونديرا، ونورثروب فراي ت.س.إليوت، وبورديو وغيرهم حاضرين بقوّة وعابرين لأجيال نقدية تُستَلهم كتاباتهم ونظراتهم النقدية ولفتاتهم وملاحظاتهم المتبصّرة في كل وقت؟ لماذا لا يحضر اسم عربي نقدي بهذه القوة التي يمتلكها هؤلاء ويكونون قائدين ومؤثّرين في ساحتنا النقدية بفاعلية وقوة؟ إلى متى اجترار نظريات ومقولات هؤلاء النقاد على مرّ الأجيال دون أن يكون لدينا نظرية نقدية تتوّج باسم عربي فاعل؟ لا نريد أن نشطّ في الحكم ولا أن نبخس نقّادنا المحليين والعرب حضورهم وجهودهم المختلفة وفق إمكاناتهم وظروفهم ولكن يظلّ التساؤل مشروعاً إذا انطلقنا من الرغبة في التجاوز والتطوّر والتقدم، فهو طموح مشروع بل مندوبٌ إليه. في تصوّري البسيط أننا بحاجة إلى "الذهن النقدي العظيم" هذا الذي أشار إليه الناقد والشاعر ت.س.إليوت حين يصف قائلاً: "ليس هناك ناقد عظيم، وتدني الأذهان العادية عن مستوى الأذهان العظيمة أشدّ إيضاحاً، على نحو موجع، في تلك التدريبات المتواضعة للذهن، التي تحتاج إلى حسن إدراك عام وإلى حساسية، منها في إخفاق تلك الأذهان في الارتقاء إلى أعلى سبحات العبقرية". ومادام الحديث عن النقد وعن شاعر "الأرض اليباب" ت.س.اليوت هذا الذي غيّر من طرائق التفكير والحساسية في بلاده بل وثوّر الذائقة الشعرية، ومن يطلع على كتابه الموسوم ب"المختار من نقد ت.س.اليوت" بأجزائه الثلاثة، وهي عبارة عن مقالات مختارة للناقد تربو على نصف قرن تظهر مدى براعة هذا الناقد وتجدّده واحتفاظه بذكائه وأمانته الفكرية ورهافة حسّه. نشير قبل أن نختم المقالة إلى تحذير جميل وجّهه ت.س.اليوت للنُقّاد يقول فيه:"ثمّة حدّاً فلسفيّاً لا يجمل بك أن تتعدّاه إلى أبعد مما ينبغي، إذا أردت أن تظلّ محتفظاً بوضعك ناقداً ولم تكن على استعداد لأن تلوح في صورة الفيلسوف أو الميتافيزيقي أو عالم الاجتماع أو عالم النفس بدلاً من الناقد...".