ليست الأزمة التي يعانيها النقد العربي المعاصر خاصة به وحده. ذلك وهم نشيعه انطلاقاً من غياب المعلومات، أو انتصاراً لنرجسية جريحة. إنها أزمة ذات طابع كوني، امتدت من المركز إلى الأطراف. ففي بلد مثل بريطانيا، كان النقد يحتل فيه منزلة رفيعة منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف ستينات القرن الماضي، ضعفت هذه المنزلة وانسحب النقاد إلى داخل الأسوار الأكاديمية لممارسة نوع من النقد المشغول بنظريته أكثر من انشغاله بما يدور حوله في العالم الصاخب المتحول. وعلى رغم التحولات الأخيرة التي ضربت بعصاها السحرية النقد في العالم، عبر الدعوة إلى استبدال النقد الثقافي بالنظرية، وإعادة الاعتبار الى ممارسة نقدية تعنى بخارجيات النص بدلاً من التركيز على الكون اللغوي الذي يشكله النص، فلا يبدو أن النقد، والناقد من ثمّ، قد استعادا دوريهما في الحياة الثقافية البريطانية. في كتاب في عنوان «الحرب ضد الكليشيه: مقالات ومراجعات»، يقول الروائي والأكاديمي البريطاني مارتن إيميس عن النقد في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته: «كنت آخذه على محمل الجد. جميعنا فعلنا ذلك. كنا نتسكع ونتحدث عن النقد. نجلس في البارات والمقاهي ونأتي على ذكر و. ك. ويمزات وجي. ويلسون نايت، نحكي عن ريتشارد هوغارت ونورثروب فراي، وريتشارد بوارييه وتوني تانر وجورج شتاينر». الأسماء التي يذكرها إيميس مثلت ذورة المشهد النقدي والنظري الأنغلوساكسوني في فترة الخمسينات، وغلب على ممارستها النقدية الحلم النظري، أو الرغبة في تقريب النقد من العلم الإنساني. لكن ذلك لم يمنعها من الاهتمام بالنقد التطبيقي الذي يحلل النص ويسعى إلى التوصل إلى سمات جوهرية تجعل من ذلك النص أدباً رفيعاً. لم تكن تلك الأسماء التي طبعت المشهد النقدي الأنغلوساكسوني طوال ثلاثة عقود على الأقل بعيدة من حمى النظرية التي بدأت تهب من روسيا ما قبل الثورة البلشفية وشرق أوروبا في عشرينات القرن العشرين، ممثلة في الشكلانيين الروس وحلقة موسكو اللسانية ومدرسة براغ، وعمل ميخائيل باختين الذي يزاوج بين بحث الشكلانيين والنقد الاجتماعي. لكن هذا النقد كان طالعاً من الميراث النقدي الإنكليزي والأميركي الذي انعطف بعد الحربين العالميتين، اللتين ولدتا يأساً عميقاً في النفس الغربية، لينشغل بالنصوص تعبيراً عن قدر من إدارة الظهر لمجتمعات وسياسات وأيديولوجيات صنعت الكارثة. ومع ذلك وجد هؤلاء النقاد أرضاً خصبة بين طلبة الجامعات الذين تلقفوا هذه الكتابات النقدية الجديدة بحماسة بالغة. يتذكر إيميس ما يسميه «عصر النقد» الذي استمر، من 1948، العام الذي أصدر فيه ت. س. إليوت كتابه «ملاحظات حول تقديم تعريف للثقافة»، وأصدر ف. ر. ليفيز كتابه «التقليد العظيم»، ثم تلاشى دور هذا العصر في أثناء الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في نهاية السبعينات من القرن الماضي، بتعبير إيميس. والسبب في هذا التراجع هو «تأثير «قوى الدمقرطة» التي كانت هرميات خبراء النقد ومراتبياتهم هدفاً من الأهداف التي وجهت سهامها في اتجاهها. وقد تحددت اللحظة المفصلية أثناء حركة 1968 المعادية لكل أشكال السلطة، من خلال تظاهرات الطلبة والحماسة الثورية». على رغم اختلاف السياقات التاريخية في البلدان والثقافات المختلفة لا يبدو أن النقد أفضل حالاً في أمكنة أخرى من العالم، أو أن النقاد ما زالوا يتمتعون بالمكانة الرفيعة التي كانوا يشغلونها من قبل. صحيح أن الثورة البنيوية وابنتها التفكيكية قد جعلت من نقاد مثل رولان بارت وجاك دريدا في فرنسا نجوماً في الصحافة الفرنسية، لكن ذلك لم يستمر لفترة زمنية طويلة. الشيء نفسه يمكن أن نشهده في الثقافة العربية المعاصرة، فالمكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها طه حسين أو عباس محمود العقاد، أو حتى محمد مندور ولويس عوض، لم تتمتع بها الأجيال التالية من النقاد مثل عز الدين إسماعيل وإحسان عباس ومحمد النويهي وعبدالقادر القط؛ وصولاً إلى جابر عصفور وعبدالله الغذامي وكمال أبو ديب ومحمد برادة وعبدالسلام المسدي وفيصل دراج. لقد ذهب الزمن بالمكانة المركزية التي احتلها الناقد، بغض النظر عن رؤيته النقدية ومنهجيته وجهازه النظري الذي يشغله للوصول إلى قارئه. إن المسألة لا تتعلق بما يشدد عليه النقد، بتغليبه النظرية على النص أو تفضيله نوعاً من القراءة العارفة التي تدرك كيفية الوصول إلى القارئ وتسعى إلى تجسير الفجوة بينها وبينه. إنها تتعلق، بالأحرى، بمبدأ تعويم القراءة، وجعلها ممارسة عادية ترتكز على قدر كبير من التأويل الشخصي، بحرية العلامات اللغوية والإرجاء المتصل للمعنى بحسب الممارسة التفكيكية لجاك دريدا. لقد حل عصر القارئ محل عصر الناقد. وهذا ما نشهده الآن في شبكة الإنترنت حيث تسبح الآراء والتقويمات والتفضيلات في هذا الأوقيانوس المتلاطم من الحروف والصور، ويتواصل المستخدمون في ما بينهم مستعملين البريد الإلكتروني أو شبكات الإنترنت البينية الخاصة أو المدونات أو الفايس بوك أو التويتر أو اليوتيوب، للتعبير عن إعجابهم بكتاب أو أغنية أو مقطوعة موسيقية أو لوحة تشكيلية. وإذا كان مستوى المادة السابحة بين الشاشات متدنياً أحياناً، فإن الزمن كفيل برفع مستوى الكتّاب والكاتبات. لنعترف: لقد ولى بالفعل زمن النقاد.