تساؤلات تدور في الذهن حول هذه الأجواء الملبدة في عالمنا العربي، وكأنه مخاضاً لا يلبث أن نخرج منه بتأسيس جديد لمرحلة جديدة هي في طور التشكل والتجاذب في منطقة اعتادت على الصورة الواحدة والشكل الواحد. وفي خضم هذه التفاعلات وتلك التجاذبات أُفرزت مصطلحات تضمنت توجهات لشعوب المنطقة تعكس مطالبها ومواقفها ازاء المرحلة الحالية والحرجة التي تمر بها المنطقة. المستقبل المُشرق يبدأ بتحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبله، وعندئذ سيشعر بالواجب أو الإرادة الصالحة، كما سماها كانط، ما يؤسس فكرة المواطنة كونها تتسامى فوق الاختلاف وتحجم النزاعات الحزبية والفكرية وتلغي ما قد يشوب العلاقة ما بين الدولة والمجتمع من ريبة واحتقان وعدم ثقة. وفي هذا السياق استوقفتني مقولة تعكس الحال وما نحن فيه من أزمات تقول إن "أي تحليل موضوعي للأوضاع العربية خلال نصف القرن الأخير لا بد أن يستنتج أن الأوضاع المتردية التي نعاني منها جاءت نتيجة قرارات مرتجلة انفعالية اتخذها الذين اتخذوها بدون تفكير في العواقب وجاءت النتيجة كارثية". مقولة فيها الشيء الكثير من الصحة، وليس المقام هنا التهكم، وإنما الوقوف على الخلل. ومع أننا لسنا من أصحاب التفاؤل المفرط أو التشاؤم المحبط، فان قراءة ما يحدث يشير بأننا بصدد مسار طويل. رغم أنه لوحظ أن تداعيات الربيع العربي دفعت البعض آنذاك إلى تفاؤل مفرط بالتحول إلى الديمقراطية وهي في تقديري رؤية غير دقيقة حيث لا يسندها الواقع السياسي والاجتماعي، كما أن المسألة لا تتعلق فقط بإسقاط أنظمة فاسدة بل إن المعيار بما تم إنجازه من عملية التغيير. إن السياسة هي فن الممكن، وبالتالي الدولة الراشدة (البراجماتية)، هي التي تتكيف مع المتغير، فتكون متفاعلة دون تماهٍ مع هذا أو انعزال عن ذاك، وتتسلح بالعقلانية ليمكن لها التغلب على الصعاب وإلا أصبحت كائناً جامداً غارقاً في الضياع. غير أن الخشية تأتي من بعض الأطراف التي لا تنفك تندفع بعواطفها سلباً أم إيجاباً. والبعض منها قد يكيل المديح لهذه الدولة أو ذلك النظام لمجرد القيام بإصلاحات هامشية وليست جذرية، في حين ان البعض الآخر قد يذم ذلك التوجه، منطلقاً من قاعدة رفض هذا النظام أو ذاك دون التعامل مع المسألة بشكل موضوعي وواقعي، وهذه قضية شائكة متجذرة في بعض العقليات العربية التي لا يمكنها الانسلاخ من مواقفها الشخصانية. على أن المعضلة في الأزمات التي تواجهها الدول العربية كالفقر وقلة الموارد والإمكانات والأمية والبطالة وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء فضلاً عن صياغة دساتير تحقق تطلعات الشعوب. ومن الطبيعي أن تكون هناك قرارات صعبة وهنا تبرز أهمية المشاركة السياسية كون النضج الديمقراطي يأتي تدريجياً مع الممارسة الديمقراطية، ومع ذلك لن تجدي نفعاً الحكومات التي تفشل في سياساتها من إلقاء اللائمة على مشجب المؤامرة. أضف إلى ذلك أن الدولة الريعية لم تعد منتجة في ظل ما نعيشه من تحولات وبالتالي أي تأجيل أو تسويف للمشروعات الإصلاحية سيكون خطأ جسيماً ولن يحسمها إلا إرادة سياسية قادرة على إحداث تغيير لا سيما في غياب المؤسسات الدستورية وضعف مؤسسات المجتمع المدني ووجود تيارات ممانعة للتحديث. على أن الوصول لذلك التوجه أو الاقتراب منه على أقل تقدير، يستدعي قراءة الداخل وظروف الخارج، فالهدف ليس الشعاراتية بقدر ما انه يكمن في مستقبل أجيال، وبالتالي الشروع في الإصلاح هو الخطوة الأولى لإنجاحه، طالما أن هنالك تلازماً بين المصداقية التي تقوم على الفعل والالتزام المبني على الجدية والنزاهة، ومتى ما التزمت الحكومة بهذا التلازم أي بقراءة ناضجة للمعطيات والأولويات وضرورات الدولة والمجتمع، فإنه يمكن القول حينها إن مشروعاً كهذا قد يرى النور. ومع ذلك فالمراقب لتعاطي بعض الحكومات في عالمنا العربي يجد أنها لم تستطع الانسلاخ من مفاهيم الأيديولوجيا والطائفية والانتهازية والفساد. هذا واقع ماثل، فتلك العقلية الطافحة بالنرجسية وتضخم الأنا، تنفرد في نموذجها فهي تؤمن بالحوار الذي فقط يحقق مطالبها، وتتمسك بأيديولوجيتها وانتمائها حتى لو تعارضت مع المصالح العليا الوطنية. بات معلوما أن ثمة تحدّيات تواجهه تلك الدول وحالة من الترقب تعيشها شعوبها تتمثل في انتظار الخروج من هذا النفق المظلم عبر ترسيخ المواطنة وتذويب القبيلة وإخماد الطائفية ولا يفوتنا التذكير بدور الثقافة المضادة التي شكلت نمطاً من وعي التخلف في مضامينها فسحب مسار التطور الإنساني إلى الخلف، دليل على وجود تخلف فكري ترسخ في الحياة الاجتماعية. وهنا يبرز دور صانع القرار السياسي اليقظ الواعي في قراءة القادم من الأيام، والتهيؤ لمفاجآتها بالاضطلاع بالمسؤولية ما يجعل الجبهة الداخلية صلبة فيصعب اختراقها طالما أنها لا تعاني من كبت سياسي يلوث مناخها، أو خنوع يضعف حضورها فإصلاح الداخل خطوة مفصلية لقفل الباب أمام المتربصين وعاشقي دق الأسافين. صفوة القول: المستقبل المُشرق يبدأ بتحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبله، وعندئذ سيشعر بالواجب أو الإرادة الصالحة، كما سماها كانط، ما يؤسس فكرة المواطنة كونها تتسامى فوق الاختلاف وتحجم النزاعات الحزبية والفكرية وتلغي ما قد يشوب العلاقة ما بين الدولة والمجتمع من ريبة واحتقان وعدم ثقة.