عاشت فرنسا ليلة أمس نوعاً من الهدوء الحذر، حيث لم يتجاوز عدد السيارات التي أحرقت خمسمائة سيارة وعدد الموقوفين لم يتجاوز عدد اليوم الذي سبقه، أي ما يقارب المائتين شخص.الجديد هو انضمام مدينة بلفور في الشرق إلى قائمة المدن التي تفرض حظر التجول ليلاً. واللافت هنا هو أن عمدة هذه المدينة هو السيد جان بيير شوفنمه، الذي كان وزيراً للدفاع أثناء غزو صدام للكويت وكان منحازاً يومها إلى الطرف العراقي، وبعدها عمل وزيراً للداخلية وهو على علاقة جيدة بالعديد من الأطراف العربية، وهو ما يثير كثيراً من التساؤلات حول هذا التحول الذي برره الوزير بأنه للحفاظ على الأمن وأن مسؤوليته كعمدة للمدينة تحتم عليه اتخاذ الاجراءات التي يراها ضرورية للحفاظ على أمن مواطنيه. حدث هذا من صديق العرب في حين رفضت الكثير من ضواحي باريس وعمدها تطبيق هذا القانون باعتبار أن الأحوال لم تصل بعد إلى هذه الدرجة من الخطورة، وفي الإطار نفسه فإن خمس مقاطعات فرنسية ما زالت تصر على تطبيق حظر التجول. هذا وقد دعت جمعية جديدة إلى مظاهرة أمس قرب برج إيفيل أملاً في التهدئة واستعادة النظام في كل المناطق التي تعرضت لأعمال العنف، وقد حضر المظاهرة عدد كبير من الفرنسيين والأجانب الذين يحلمون بفرنسا هادئة وعادلة.وفي نفس الليلة الحذرة عرض التلفزيون الفرنسي الرسمي «القناة الثانية» مشاهد كان قد صورها فريق من المحطة قبل ثلاثة أيام من عرضها، في هذه المشاهد رأي الفرنسيون ومتابعو المحطة اعتداءً عنيفا من قبل رجال الشرطة الفرنسية على أحد المتظاهرين حيث ضربوه بالأيدي والأرجل والكلمات النابية.كما عرض التلفزيون نفسه مشاهد مماثلة لحالة أقرب من اعتداء الشرطة الفرنسية على أحد المتظاهرين وقد صور هذه المشاهد التلفزيون الألماني. وبعد هذه العروض المؤلمة جاء دور وزير الداخلية الفرنسي السيد نيكولا ساركوزي الذي حل ضيفاً كبيراً ومنظراً على أحد البرامج الاخبارية الشهيرة في نفس القناة.وقد وجه الوزير حديثه للفرنسيين وقال أعرف وأفهم خوفكم. وخص بعض المناطق التي اشتعلت مؤخرا. لكنه لم يتراجع عن أوصافه لبعض الشباب بالحثالة والرعاع، لكنه أكد في الوقت نفسه بأنه يعني الأٍقلية التي تحول دون أن يعيش الناس في ضواحيهم ومدنهم بسلام. وأصر مجدداً على تسميتهم بالحثالة والرعاع ووعد الفرنسيين بالأمن والأمان، معترفاً في الوقت ذاته بأن المناطق التي عاشت هذه النيران مناطق ليست خالية من الظلم والعنصرية والعزل. وأشار في هذا الإطار إلى أنه من السهل على أوروبي من شمال أوروبا أن يندمج في المجتمع الفرنسي مقارنة بالصعوبة التي تواجه أهالي شمالي افريقيا وجنوبيها، وبدا الوزير حازماً في استخدام القوة للقضاء على هذه الخروقات. مؤكداً في نفس الوقت أنها قوة القانون وأنه لن يسمح بأي تجاوزات من قبل قوات الأمن الفرنسية وأنه فصل أولئك الذين دينوا بعمليات الاعتداء على بعض المتظاهرين. وكان إلى جانبه في نفس اللقاء ممثل للحزب الاشتراكي وآخر للحزب الشيوعي، وكلاهما نائب في البرلمان. وأبدى كل منهما اتفاقا كاملاً مع كل الاجراءات التي اتخذتها الحكومة، مما أدهش المذيعة والكثير من الحاضرين والمشاهدين. إذ لم يكن هناك ما يبرر هذ التواطؤ. إلا إن كان هناك اتفاق مسبق وراء الكواليس على هذه اللغة وعلى هذا العرض الذي يشبه عرضاً مسرحياً أكثر منه عرضاً سياسياً.كان بين الحضور شاب ذو سمات عربية، وأعرب في بداية حديثه عن سعادته بأن يشارك في هذا الحوار التلفزيوني. وقد خانته لغته الفرنسية. مثله مثل الكثيرين من هؤلاء الشباب الذين اختاروا التعبير بالصورة على التعبير بالكلمة، أنه زمن الصورة فعلاً. ولا يخفى على أي مراقب هنا في فرنسا كيف أن الجيل الجديد فقد القدرة على التعبير بالكلمات، وعوّض عنها بالتعبير بجسده. ولعل في هذا العجر ما يفسر هذا العنف الذي يدفع بمن يراه على شاشات التلفزيون في العالم إلى الاعتقاد بأن فرنسا كانت على شفا الموت والانهيار.إن الجيل الذي أشعل النار في كل مكان مستعد لاشعالها مجدداً والاحتراق بها في سبيل أن يظهر على شاشات التلفزيون، ليس هذا مرضاً فرنسيا، إنه أحد أمراض الإنسانية في يومنا هذا.