لأنها لا تريد ان تكون ظلاً لتجربة سابقة أو نسخة مكررة تسعى الشاعرة حليمة مظفر في ديوانها هذيان لأن يكون لها صوتها الخاص. الذي حقق صدى جميلاً في الساحة الثقافية. وهي الصحافية المتميزة التي ساعدت الشاعرة على اتساع تجربتها. وفي هذا الحوار ل «الرياض» نسلط الضوء على تجربتها في ديوان هذيان وإلى رؤى أخرى في الشعر وفي الكتابة. ٭ هذيان كعنوان هل هو بدلالته يمنح القارئ رشوة البدايات بحيث يتغافل عن ماهية النصوص ويعفوها من المساءلة.. فحالة الكتابة تمت في حالة الهذيان؟ - لا اعتقد ذلك، لأني لا أقدم رشوة للقارئ كي يحمل توجساته الفكرية وريبته واتهاماته ومحاكماته لي بعيداً عني، لأني غير مبالية بذلك، ولو وضعت في ذهني لحظة مساءلة القارئ وريبته كما أشرت فصدقني ما كان قد خرج هذيان بنصوصه، وحقيقة اختياري له قائمة على فلسفة إنسانية نهضت بها النصوص ولم يكن اختيارا اعتباطيا، فقد كان نص هذيان الأقرب إلى نفسي لأنه أرهقني نفسياً ووجدانياً وزمنياً، وهو العنوان الأقرب لما يتسم به العالم الإنساني المحيط بنا حيث اللامنطقية في احباطاته على مختلف المستويات وان كنت غير متشائمة، فاخترته كي أدخل القارئ معي إلى عالم استشعرته لكني لم أغلق عليه الباب وإنما تركته موارباً كي يدخل أو يخرج كيفما يشاء. ٭ المقدمة التي كانت في بداية الديوان ألا تعتقدين انها ضيقت على المتلقي وسربت له محتوى الديوان؟ - لا اتصور ذلك، فما كتبته كان عبارة عن مسرح صغير جداً اسميته «ابتداء على مسرحي» وكنت بطلته الحقيقة في خطابي الممسرح البسيط الذي أردته في أول لقاء مع المتلقي، وهو لم يفرض عليه نمطية قرائية مقننة كوني على يقين بأن القارئ له تجربته القرائية التي تبنى على تجربته والتراكمية والنفسية والشعورية الخاصة به، فربما يصافحني في نهاية الديوان وربما يدير لي ظهره وفي كلتا الحالتين لن أخسر شيئاً بل سأكتب مروره. ٭ نلاحظ طغيان الخطابية في النصوص وذلك للشعارات التي تنادي بها في قضايا عامة قد لا تتناسب مع الحالة الشعرية؟ - ما يفهم من سؤالك هو رفضك تجسيد القضايا العامة في الحالة الشعرية نحو القضايا السياسية والإنسانية، وهذا غير صحيح، فالقضايا العامة هي من المحركات للحالة الشعرية والفكرية ومن عوامل استفزازها لتجرنا إلى معاناة ذاتية تنبلج منها التجربة الشعرية بصدق، فمحمود درويش اطلق من فلسطين قضية تنبلج فجراً لا يغيب في قصائده ونزار قباني تمرد بقوة في قصائده السياسية وقصائده عن المرأة التي سخر فيها من عادات المجتمع الشرقي وازدواجيته وملائكيته، قل لي: أليست العادات والتقاليد من القضايا العامة التي اطلقها نزار في قصائده، بل ان أكثر أولئك الشعراء الذين وجدوا شعبية لدى جمهورهم هم من عبروا عن قضايا هذا الجمهور وكانوا جزءا من همهم. وإن وجدت شعارات القضايا العامة في النصوص جميعها بهذيان فأين أنت عن 11 نصاً عاطفياً جسدت فيها تجربة ذاتية، فكل نص في المجموعة هي في الأساس قصة ولحظة حياة كنت حيناً بطلتها وكان الإنسان أحياناً بطلها، وفي كل ذلك أتأمل القصة بعمق حتى تتمدد داخل كل خلية في جسدي ولعل عملي الصحافي جعلني اتمدد أكثر فأكثر داخل الإنسان الذي نعيشه اليوم. ٭ لغة الجسد حضورها طاغ في قصائد هذيان.. كشاعرة كيف تنظرين لهذه المسألة؟ - هذا صحيح، ووجوده كان عفوياً ليس بقصد مني، ودعني أكون صادقة معك: لماذا أنكر الجسد أو أسعى حتى إلى تغييبه من الأساس في خطابي الشعري!! ولماذا إذا ما ذكرنا الجسد خاصة في خطاب المرأة كان تجاوزا ويعد مشيناً أو مخجلاً كإشارة إلى الجنس أو حتى مريباً يثير التوجس!! فعن نفسي لا أجد مبرراً مقنعاً كي أغيبه لأني مؤمنة به كحقيقة، فأنا أحمله معي أينما كنت وهو يتقاسم معي تجارب الحياة كل حين، وأنت تفعل ذلك والجميع يفعلون أيضاَ، فهو إذن علامة دالة على وجودك كذات وفكر وحياة وغيابه دليل على الموت وانك صرت شبحاً، ف «جسدي موجود إذاً أنا أحيا». وأنا لا أحب أن أكون شبحاً لامرأة ميتة دفنت جسدها في بحر الإنكار الذي فرضه عليها العرف الاجتماعي غير الناضح. ٭ وهل تجدين الحشد للمفردات الحسية دلالة على أنثوية النص؟ - طبعاً لا، وأنا ضد التصنيف من الأساس، فهل نصوص القباني التي جاءت على لسان امرأة وبها مفردات حسية أنثوية دلت على أنثوية النص رغم ان قائلها هو رجل، هنا مأزق، ولهذا يا سيدي الإبداع هو الإبداع مهما كان صاحبه ذكراً أو أنثى، وإنما هناك حقيقة على المبدع وخاصة المبدعة ان يواجهها داخلة متمثلة في الذات، وهي تختلف لدى المرأة عنها لدى الرجل بسبب اختلاف طبيعة تجاربهما الحياتية، ومحاولة الهروب منها أو تجاهلها وتغييرها أدعى إلى تشويه الإبداع الذي يعد بدوره جزءاً لا يتجزأ من هذه التجارب. ودعني أخبرك لو أن شاعرة سيطرة عليها العرف الاجتماعي الذي يطغى عليه الخطاب الذكوري مما يجعلها تابعا وليست شريكا، فحتماً سيسيطر ذلك على نصها الشعري لأنها فيه إما ستحاول الهروب من رغباتها كأنثى خوفاً من التعبير ن تجربة مشينة سيظنها العقل الجمعي، وإما تسعى بالهروب إلى الرمز الذي قد يكون بعيداً عن واقعها وغير مناسب للتعبير عن ذاتها وهذا بحد ذاته مأزق لن يسوغ إبداعها، ويجعله مضطربا، واعتقد ان الصدق ووضوح الذات سيؤدي إلى توظيف المفردات الحسية والمعنوية على حد سواء في النص بشكل مؤثر ومحبب لدى المتلقي، أما إذا كانت طبيعة الذات مشوهة وغير واضحة فحتماً استعماله لهذه المفردات سيكون استعمالاً فجاً وفاشلاً لأنه تكلف في استفزاز المتلقي. ٭ مسألة التجاوز الفني يظل هماً للمبدع في نصوص هذيان هل تحققت لك هذه المسألة؟ - هذه المسألة تصيبني القلق كثيراً عندما أهم بكتابة أي نص قبل هذيان وبعده ولا أحسب أني استطيع تجاوزها، ولكن بخصوص هذيان أظن أني فعلت ذلك، من خلال ما وصلني من صدى أسعدني كثيراً، فكثيرون ولله الحمد ممن قرأوا هذيان أخبروني بأنه اتسم بالتجاوز وعبر عن رؤى ومضامين مغايرة ومختلفة عن تجارب إبداعية سابقة. ٭ في رأيك إلى أي تيار شعري يمكن تصنيف تجربتك في هذيان؟ - هذا الأمر أولاً وأخيراً متروك للنقاد المهتمين والجادين، وعن نفسي لم أخطط يوماً لتصنيف تجربتي داخل تيار ما، لأني لا أجدني أنضم إلى أي منها، فما أرغب به هو أن أكون تجربة خاصة بي لا أن أكون ظل تجربة سابقة أو نسخة مكررة، ولهذا أسعى جاهدة لأن أكون صوتي الخاص ولن أكتب شيئاً يتناسب مع هذا التيار أو ذاك، وإنما سأكتب شعري بطريقتي بما يتناسب مع ذاتي وقناعتي. ٭ شاعرات الثمانينات هن الأكثر حضوراً في ذاكرة المتلقي ما تفسيرك لعدم وجود تجارب شعرية نسائية في الأجيال اللاحقة التي تحقق ذات الصدى الذي تحقق لجيل شاعرات الثمانينات؟. - الإجابة واضحة طامي، فالبيئة الثقافية كانت تنعم بخصوبة تربتها لكافة المبدعين، فالنقاد كانوا يقرأون نتاج المبدعين الشبان لأنهم يريدون تأسيس اسمائهم في تلك الفترة، وكان القائمون على الصحافة الثقافية على وعي بدورهم وبواجبهم في خلق اسماء جديدة خاصة فيما يتعلق بالمبدعة لأن صوتها الإبداعي كان هما من همومهم لحفره حقيقة في ظل من يكتبون باسمها وفي ظل الاسماء المستعارة وهذا الأمر عزز كثيرا من وجود هذه الاسماء التي احتفظت بها الذاكرة حتى الآن، ولا شك ان صراع التيار التقليدي مع الحداثة كان قد خلق بيئة صحية لوجود أسماء مبدعات ومبدعين أيضاً. أما ما بعد هذه المدة وخاصة الآن فأنت تعرف أن أغلب نقادنا ممن خلقوا لهم حضوراً قوياً عكفوا مؤخراً على نظرياتهم وبعضهم قتل النقد الأدبي وتجاهلوا في رتم ذلك الجيل الجديد لأنهم لم يعودوا يقرؤون له وحبسوا أنفسهم في جدران الماضي بل وكل منهم يحاول إلغاء الآخر وأصبحنا نشهد صراعاتهم بدل إثرائهم الثقافي وعندما تسأل أحدا منهم عن اسماء مبدعات فهو يكرر الأسماء بعينها منذ عشرين عاما، فقد كبروا مكانة واصبح الجيل الجديد قزما أمامهم لا يرقى لمستوى قراءة بعضهم لبعض، هذا إلى جانب ممارسة الصحافة الثقافية لدى أغلب الصحافيين بطريقة غير واعية وبغير معرفة فاختلط الحابل بالنابل كما يقولون، إلى جانب توجه أغلب الجيل الحالي خاصة من المبدعات تجاه الرواية وعوالمها كونها أصبحت نافذة للشهرة من أول عمل روائي بما انك تحاول فيه كشف المستور فقط بغض النظر عن قيمة الرواية الفنية واللغوية، ولو ان الشاعرة السعودية الآن تنعم بمنبر ثقافي تقرأ من خلاله شعرها وكانت محاكمتها على نصوصها بشكل محايد دون الزج بتجربتها الشخصية التي تصيبها بالتردد ولو كان الرجل قادرا على استيعاب إبداعها الشعري بعيداً عن جسدها لتنطلق بحرية لكانت هناك ذاكرة تحتفل بها كشاعرات الثمانينات. ٭ أليس لديك قلق من أن يطغى حضورك الصحفي على حضورك الإبداعي؟ - هناك قلق متواصل داخلي تجاه ذلك. فأنت تعرف ان الصحافة محرقة خاصة لمن يركضون خلف المتاعب مثلي، ولكن بصراحة ان الشاعرة داخلي اضافت للصحافية القدرة على التقاط التفاصيل من حولنا وتأمل محيطنا، أما الصحافية فقد ساعدت الشاعرة على اتساع تجربتها وكلتيهما جزء لا يتجزأ من تكوين باحثة تبحث عن الجديد دائماً.