أن يكتب الإنسان عن الاكتئاب في أيام العيد فذلك يعني أنه مكتئب حقاً، ولعل هذا ما فعله المتنبي حين كتب داليته المشهورة في أيام العيد التي يقول فيها: عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضي أم لأمر فيك تجديد ثم يقول، فيها وهذه من الأبيات القليلة التي تصف حالة الاكتئاب في الشعر العربي: ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني بما أنا باك منه محسود إذا أردت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقود أصخرة أنا مالي لا تحركني هذى المدام ولا تلك الأغاريد ولأمر ما وبمحض المصادفة تصدح أسمهان في المسجل القابع بجانبي قائلة: أسباب شقاي ذل الفؤاد والعين ضناها كثر السهاد والاكتئاب يعتبر الآن السمة الغالبة على هذا العصر، ولهذا فإن التيمة المسيطرة على كل فنون وشعر الحداثة هي الاكتئاب، ففي الفنون التشكيلية تعتبر لوحة: «الصرخة» لمونش Evard Munch التي رسمها لأخته التي كانت مصابة بحالة من الاكتئاب الحاد، وذلك في عام 1893، أعظم لوحة تمثل الاكتئاب، والاكتئاب الذي تعبر عنه اللوحة هو حالة شخص يفاجئه شعور من الوحدة المطلقة التي لا يقدر على الخلاص من أسرها مع إحساس بأن الطبيعة التي لا ترحم ستبتلعه في طياتها إلى الأبد، أما في الشعر فأعظم قصائد تصف الاكتئاب هي قصائد بودلير الأربع المعنونة ب Spleen وهي كلمة باللغة الإنجليزية تعني: «المرارة» ولا تحمل أي معنى آخر مع أنها في اللغة العربية تحتمل معنيين، وهي غير موجودة في اللغة الفرنسية، ولكننا حين نقرأ شعر بودلير نجد أن كلمة Spleen تعني المرارة والاكتئاب والفزع والبؤس والسأم، حيث يحيا الإنسان بقلب خاو بدون أن يكون له أي هدف أو قيمة أو نفع، وحيث يصبح الموت هو الصديق والحبيب الوحيد «إن الموت مع الأسف هو الوحيد الذي يعزينا، إنه غاية الحياة، إنه الأمل الوحيد»، ولهذا نستجديه قائلين: «جرعنا سمومك كي تطبق علينا الراحة الأخيرة» وقد ترجمت قصيدتين من هذه القصائد في كتابي «مستقبل الشعر» وقبل أن أترجم الباقيتين، أعرض لهذه الأبيات التي تصف الاكتئاب لشاعرين عربيين، أحدهما مغرق في القدم والآخر مغرق في الحداثة: يقول امرؤ القيس: وما خلت تبريح الحياة كما أرى تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا ولو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تقطّع أنفسا ويقول صلاح عبدالصبور: يا صاحبي إني حزين طلع الصباح ولم ينر وجهي الصباح وأتى المساء في غرفتي دلف المساء والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم