يا صاحبي، إني حزين طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح وغمست في ماء القناعة خبز ايامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ فشربت شاياً في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق قل ساعة او ساعتين قل عشرة او عشرتين وضحكت من اسطورة حمقاء رددها الصديق ودموع شحاذ صفيق وأتى المساء في غرفتي دلف المساء والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير حزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم حزن صموتْ والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت وبأن أياماً تفوت وبأن مرفقنا وَهَنْ وبأن ريحاً من عَفَنْ مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت حزن تمدد في المدينه كاللص في جوف السكينه كالأفعوان بلا فحيح الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز وأقام حكاماً طغاه الحزن قد سمل العيون الحزن قد عقد الجباه ليقيم حكاماً طغاه يا تَعْسَها من كِلْمة قد قالها يوماً صديق مغرى بتزويق الكلام كنا نسيرْ كفي لكفيه عناق والحزن يفترش الطريق قال الصديق: يا صاحبي!... ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم أو منية حمقاء... أو أن اسمينا ببرج النحس كانا، ياصديق وجفلت فابتسم الصديق ومشى به خدر رفيق ورأيت عينيه تألقتا كمصباح قديم ومضى يقول: «سنعيش رغم الحزن، نقهره، ونضع في الصباح أفراحنا البيضاء، افراح الذين لهم صباح».. ورنا إليَّ... ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزينْ يا صاحبي! زوِّق حديثك، كل شيء قد خلا من كل ذوق أما أنا، فلقد عرفت نهاية الحدر العميق الحزن يفترش الطريق... ٭٭٭ يعد صلاح عبدالصبور (1931-1981) أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي. كما يعد واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين اضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي، وفي التنظير للشعر الحر. تنوعت المصادر التي تأثر بها إبداع صلاح عبدالصبور: من شعر الصعاليك الى شعر الحكمة العربي، مروراً بسير وأفكار بعض اعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافي، اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات. كما استفاد الشاعر من منجزات الشعر الرمزي الفرنسي والألماني (عند بودلير وريلكه) والشعر الفلسفي الإنكليزي (عند جون دون وبيتس وكيتس وت. س. اليوت بصفة خاصة). ولم يُضِع عبدالصبور فرصة إقامته بالهند مستشاراً ثقافياً لسفارة بلاده، بل أفاد - خلالها - من كنوز الفلسفات الهندية ومن ثقافات الهند المتعددة. وقد صاغ الشاعر - باقتدار - سبيكة شعرية نادرة من صهره لموهبته ورؤيته وخبراته الذاتية مع ثقافته المكتسبة من الرصيد الإبداعي العربي ومن التراث الإنساني عامة. وبهذه الصياغة اكتمل نضجه وتصوره للبناء الشعري. ولد الشاعر في إحدى قرى شرقي دلتا النيل. وتلقى تعليمه في المدارس الحكومية. ثم درس اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، وفيها تتلمذ على الرائد المفكر الشيخ أمين الخولي الذي ضم تلميذه النجيب الى جماعة (الأمناء) التي كونها، ثم الى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى. وكان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر. كان ديوان (الناس في بلادي) (1957) هو أول مجموعات عبدالصبور الشعرية، كما كان - ايضاً - أول ديوان للشعر الحديث (أو الشعر الحر، او شعر التفعيلة) يهز الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت. واستلفتت انظار القراء والنقاد - فيه - فرادة الصور واستخدام المفردات اليومية الشائعة، وثنائية السخرية والمأساة، وامتزاج الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح. وعلى امتداد حياته التي لم تطل، اصدرعبدالصبور عدة دواوين، من اهمها: (اقول لكم) (1961)، (أحلام الفارس القديم) (1964)، (تأملات في زمن جريح) (1970)، (شجر الليل) (1973)، و(الابحار في الذاكرة) (1977). كما كتب الشاعر عدداً من المسرحيات الشعرية، هي: (ليلى والمجنون) (1971) وعرضت على مسرح الطليعة بالقاهرة في العام ذاته، (مأساة الحلاج) (1964)، (مسافر ليل) (1968)، (الأميرة تنتظر) (1969)، و(بعد ان يموت الملك) (1975). كما نشرت للشاعر كتابات نثرية عديدة منها: (حياتي في الشعر)، (اصوات العصر)، (رحلة الضمير المصري)، و(على مشارف الخمسين).