يبدو أن حالة قبل العيد ممعنة في «الغوص الداخلي» انها حالة من «الصرخات» التي نرغب أن نطلقها بأعلى اصواتنا وعلى مسمع من الناس لكننا لا نستطيع فعل ذلك. انها رغبة في التحرر من كل القيود التي ربطتنا منذ أن بدأنا نعي الدنيا واكتشفنا معنى «العيب» و«الخطأ» (1) هل تختلف الكتابة في رمضان عند البعض كما هي في الصيف وهل الكتابة تتأثر بالطقس والفصول وبالمناسبات؟ يبدو لي أن جزءاً من الكتابة تصنعه البيئة الطبيعية التي حولنا والجزء الأكبر تشكله البيئة الاجتماعية، ويبقى الكاتب مجرد «أداة» للتعبير. شخصياً اشعر بتحول نسبي في رمضان تتحول معي رغباتي في الكتابة، فأظهر أكثر هدوءاً وانزاح إلى «الانطباعية» رغماً عني، تتراكم داخلي كثير من الدوافع الرومانسية، حب لكل شيء حولي حتى ما يزعجني، فقد كنت مثلاً احاول الخروج من مدينة الرياض قبل عدة ليال فأمضيت أكثر من ساعة في طريق كنت اقطعه في دقائق ولم اشعر بالضيق، كان الوقت منتصف الليل وشعرت كيف يحتفل سكان الرياض بالرياض في رمضان، تحولت المدينة إلى عرس كبير للسيارات فغصت الطرقات وشعرت الحركة في المدينة قد توقفت وأن ما يسحبني خارج المدينة هو هذا الزخم الاحتفالي الذي صرت أحس به وكأنه موجة بطيئة تحركني شيئاً فشيئاً دون ارادة مني. الناس كانوا أكثر هدوءاً على غير عادة «شوارع الرياض» فقد كان هناك تقبل بل استسلام لهذه الموجة الحركية المتثائبة التي تتدافع داخل المدينة في كل الاتجاهات. شعرت بتغلغل رمضان في النفوس ووصلت إلى قناعتي أن هناك شيئاً ما يمكن أن يغيرنا ويعيد تشكيل امزجتنا فقلت لماذا لا نفكر جدياً في استثمار مثل هذه التحولات النفسية التي تصيبنا «هكذا» ونحاول أن نعدل بها رؤانا السلبية. (2) قبل العيد ببضعة أيام اشعر بأن شيئاً داخلي يتحرك، ربما هو جزء من «حشرجة الانتظار» التي تجعلنا في حالة قلق وتحفز، نفتقر فيها للراحة، هذا القلق يدفعني لقول ما يتصارع داخلي، لا اقول انني اريد أن «ألقي» كل هواجسي ومخاوفي على هذه الصفحات لكنها الحقيقة، انها رغبة في التخلص من «حمل الانتظار» الموجع، فهناك قريباً جداً نهاية لحدث وبداية لآخر، وهناك تحول نفسي متوقع وهموم حاولنا الهروب منها سوف تحاصرنا من جديد. هذا المقال الأخير في شهر رمضان له خصوصية «تناثرية» مشتت بين كل ما يتحرك داخلي من أفكار، احاول أن اجمعها هنا لاحتفل بالعيد بهدوء. فالعيد مثل كل مرة يمثل فاصلاً حاداً بين عالمين من المشاعر ومن الرؤى، إنه إيذان لبداية جديدة تتصاعد فيها حدة «التوتر» حتى رمضان آخر. ولعلي هنا اكرس كل مشاعري للتحدث عن الأيام القليلة التي تأتي «قبل العيد»، فهي أيام لها حضور كبير في النفس واغتنامها فرصة عظيمة، انها أوقات للتعبد والتأمل. ويبدو انها أيام تحث على التفكير وتتراكم فيها بواعث التفاؤل والقلق معاً. التفاؤل بأن هناك ما يمكن أن يغير الناس بشكل جماعي ويحولهم إلى قوة اجتماعية فاعلة والخوف من تبعثر هذا التفاؤل بعد العيد وتناثره مع تباعد الأيام عن رمضان. وليعذرني القارئ في هذا المقال فأنا افكر ب «صوت مرتفع» وإذا ما وجد تصادم بين مواضيع المقال فليتذكر اننا نعيش الأيام الأخيرة «قبل العيد». (3) صرت أفكر في الكتابة أكثر واقول انها استجابة لحالات نفسية متعددة يمر بها الكاتب/كما هي الحالة الإبداعية عند الفنان والمعماري، فما يحيط بهم من بيئات طبيعية وما يمر بهم من مناسبات يصنع كل الإرث الإنساني. ولعلي هنا اتحدث عن المعماري لأنني طالما سمعت عن انتقادات حول المعماري السعودي، فهو في نظر الكثير «مقلد» و«متآكل» ثفاقياً ومعرفياً و«فقير» جمالياً، ويبرز البعض ذلك بأنه يعيش في بيئة طبيعية فقيرة لا تعلمه الكثير وبيئة اجتماعية منغلقة لا تفتح آفاقه فكرياً وجمالياً، وبذلك يكون فاقد الشيء لا يعطيه. الإبداع جزء من الإرث الخاص ينمو داخل كل واحد منا والبيئة المبدعة تنتج إنساناً مبدعاً، والمعماري والشاعر والكاتب وكل المبدعين في المجتمع هم نتاج هذه القاعدة الإنسانية (ونحن لا نتكلم عن الاستثناءات هنا)، فهل نحن فعلاً نعيش في بيئة فقيرة «إبداعياً» لأن الله كتب علينا ذلك (طبيعياً على الأقل)؟ ولأني ما زلت في حالة «الرومانسية الرمضانية» قلت إنه لابد لهذا الأمر من تعليل آخر أقل عتمة أو أكثر إشراقاً (حسب نصف الكوب الذي نراه) وأنا هذه الأيام أفضل استخدام عبارة «أكثر إشراقاً» لأحث نفسي على التفاؤل (لأنه الخيار الوحيد أمامنا). (4) تعليلي لكل تراكمات «التشاؤم» وعدم الاقتناع بالإبداع المحلي يبدأ من رمضان والحالة المجتمعية «الرائقة» والاستنارة الداخلية التي تتفجر في كثير منا وتنطلق إلى «طيبتنا» ووفائنا فنحن مجتمع طيب ووفي في أغلب شرائحه وافراده، انها خصوصية قديمة لأبناء الجزيرة، فقد خلقوا هكذا طيبون ويغلب عليهم الوفاء والنجدة. قلت في نفسي انها مجالات خصبة للإبداع وإذا ما دخلنا في عمق صحرائنا (التي يراها البعض انها ذات لون واحد وشكل واحد لا تحث على التنوع) سوف نجد اننا نملك طبيعة تحتاج للإنسان العاشق للتفاصيل. انها مشكلة بيئتنا الطبيعية الوحيدة، فهي لا تعترف بالنظرة العابرة تبحث عن المتأني المتأمل وكما أنه في رمضان يكون الناس أكثر تأنياً لاكتشاف المدينة وإعادة بناء الجسور معها كذلك نجد أن كثيراً من الناس يعيدون اكتشاف الصحراء في «الربيع» ويكتشفون تفاصيلها التي لا تسر بها لأحد إلا لمن يعشقها. انها حالة من التحفظ أو لنقل من «الدلال» الذي تتميز به صحراؤنا، فهي لا تفتح ذراعيها إلا لمن يفهمها ويحاول اكتشافها، رغم انها سهول ممتدة تسمح للكل من أن يطأها ويسير فيها لكنها ابداً لا تخاطبه ولا تبثه همومها ولا تطلعه على كنوزها إلا إذا كان قريباً منها. طبيعتنا لا تعترف بالصداقة العابرة فإما أن تكون صديقاً حميماً أو تكون غريباً. (5) صرخت بأعلى صوتي كما فعل «ارخميس» ذات يوم وقلت «وجدتها وجدتها» إن مشكلتنا هي في فقدنا للتأني والصبر وعدم الاستعجال والبحث عن التفاصيل ورفع قيمة التأمل، فقد فقدنا كل هذه المزايا في غفلة من الزمن فلم نعد نرى لأي شيء قيمة وتولت لدينا ثقافة «اختصار الزمن» حتى في الأمور الكبيرة. فأنا مثلاً لا أعتقد أنه يوجد لدينا بطء في اتخاذ القرارات لأننا نقوم بدراسة كل قرار قبل إصداره بل نحن نتبع سياسة إما «القرار حالاً» دون مراجعة أو دراسة (وهي ظاهرة متفشية في كثير من أمورنا وقضايانا) وإما «لا قرار» (ولا يخفى على أحد توقف كثير من القضايا). كنت أعتقد في السابق أن مشكلتنا في البطء وفي هذا الشهر تأكد لدي أن مشكلتنا في الاستعجال. والحقيقة أن هذه الحالة المتطرفة العجيبة في عملية اتخاذ القرارات تبحث عن حالة وسط ووجدت أننا قادرون على تحقيق هذا الوسط دون مواعظ ومنابر، إذ ان هناك حالة تعتمر النفوس وتقتحم خباياها تدفع إلى الطمأنينة والتريث ويجب علينا اغتنام هذه الحالة وتوظيفها لتفعيل «الوسطية». (6) انها البداية التي يجب أن تركز على إعادة هذه القيم المجتمعية والثقافية، فلا يمكن أن تنمو علاقتنا بالبيئة المحلية والطبيعية دون الغوص عميقاً فيها. والحقيقة انني صرت اعجب كيف تدفعنا بعض المناسبات إلى التأني والتأمل وكيف مرت كل هذه السنين ولم نحاول أن نستثمر هذا التأني لإعادة اكتشاف أنفسنا من الداخل. ربما نحتاج أن نخضع مجتمعنا بأكمله إلى قراءة نفسية «ميدانية» حتى نفهم بواعث «الطمأنينة» والهدوء التي نجدها عند الناس في رمضان وفي بعض المناسبات الأخرى، كما اننا بحاجة إلى فهم خصوصية بيئتنا الطبيعية، خصوصاً الصحراء وقراءتها قراءة «انثربولوجية» وجمالية متأنية. ورأيت أنه من الممكن أن نطور «ثرمومتر» يقيس درجة «الرومانسية» لدى الناس، إذ يبدو اننا نبحث عن الحب دون جدوى ونجد في مناسبة مثل رمضان تعويضاً لهذا النقص الرومانسي الحاد. الحب حالة من الشعور الصادق الشفاف لكل شيء وليس فقط بين الرجل والمرأة. فأنا اعشق المكان كما اعشق البشر، واشعر بتشابكاتها كما احاول أن اشعر بتشابكات المجتمعات وأحس بهمومها كما يهتم الإنسان. حالة الحب هذه تصنع فينا كل الرغبة في التأني والفهم والشعور بالآخر، ولعل هذا ما نحتاجه على الأقل كخطوة أولى. (7) يبدو أن حالة قبل العيد ممعنة في «الغوص الداخلي» انها حالة من «الصرخات» التي نرغب أن نطلقها بأعلى اصواتنا وعلى مسمع من الناس لكننا لا نستطيع فعل ذلك. انها رغبة في التحرر من كل القيود التي ربطتنا منذ أن بدأنا نعي الدنيا واكتشفنا معنى «العيب» و«الخطأ» دون أن يكون ما سنفعله عيباً وخطأ ودون أن يعلل لنا أحد لماذا هو عيب وخطأ. «قبل العيد» يمثل حالة من التمرد مختبئة في قاع نفوسنا لا تريد أن تظهر حتى لا يكتشفها أحد فينا، فنحن ما زلنا نسأل اسئلتنا الكبرى حول «الخطأ والعيب» الذي لم نرتكبه ابداً دون أن نعي أنه كان قيداً وهمياً ومع ذلك لم نستطع التخلص منه حتى هذه اللحظة لأنه أصبح جزءاً منا ويحتاج إلى أكثر من عملية جراحية ذهنية لفكه.