يغوص والاس ستيفنز في استكناه طبيعة المعضلة التي تواجه الشاعر الحديث، أو القصيدة الحديثة، حين يصف ذلك الشاعر.. بالميتافيزيقي الذي يعزف في الظلام ليقع في عزفه على لحظات صحة أو صدق غير مرسومة سلفاً كما كان الحال في الشعر ما قبل الحديث حين كانت الثقافة المستقرة تمد الشاعر بكل صحيح ومقنع له ولجمهوره قصيدة الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز "حول الشعر الحديث" (1940) من النصوص الشعرية النادرة في تمحورها كاملة حول رؤية شاعر لما تعنيه حداثة الشعر. ولأن ستيفنز شاعر كبير، ربما اعتبره البعض أهم شعراء أمريكا في النصف الأول من القرن العشرين (منافسه روبرت فروست)، ولأهمية القصيدة من حيث هي ترسم ملامح رؤية نقدية شعرية في الآن نفسه، فإنها جديرة بالتأمل في يوم الشعر العالمي، وفيما يلي ترجمة للنص وتعليق عليه: قصيدة الذهن في فعل البحث عما يكفي. لم يكن عليها دائماً أن تبحث: كان المشهد معداً؛ فكررت ما كان في النص. عندئذٍ تغير المشهد إلى شيء آخر. صار ماضيها تذكاراً. عليها أن تكون حياة، أن تتعلم كلام المكان. عليها أن تواجه رجال العصر وأن تقابل نساء العصر. عليها أن تفكر بالحرب وعليها أن تجد ما يكفي. عليها أن تبني خشبة مسرح جديد. أن تكون على تلك الخشبة. ومثل ممثل لا يكتفي، تقول ببطء وبتأمل، كلمات تكرر، في أذن الذهن، في أكثر أذني الذهن رهافة، وبدقة، ذلك الذي تود سماعه، والذي عند سماع صوته ينصت جمهور خفي لا إلى المسرحية، وإنما لنفسه، معبراً عنه كما في عاطفة اثنين، عاطفتين توحدتا. الممثل ميتافيزيقي في الظلام، يعزف آلة، يعزف وتراً يصدر أصواتاً تمر عبر لحظات صحيحة مفاجئة، تحتوي الذهن كاملاً، لا تستطيع النزول أدنى منها، ولا ترغب الصعود إلى أعلى. عليها أن تكون العثور على قناعة، وقد تكون لامرأة تتزلج، امرأة ترقص، امرأة تمشط. قصيدة الفعل الذهني. ليست هذه القصيدة مما يسهل تحليله في لغتها الأصلية ناهيك عن ترجمتها. لكن لعل التحليل بما فيه من فسحة في القول يخفف ما في النص من صعوبة أو غموض يتضاعفان بالترجمة. وقد عانيت من تلك الصعوبة تلميذاً يستمع إلى أستاذ يحلله، ثم أستاذاً يحلله لطلاب متخصصين يستمعون، وها أنا أنقله وأحلله لقراء معظمهم غير مختصين فلا أرى الصعوبة إلا متفاقمة عما كانت عليه. ولتفادي تحويل بقية هذه المقالة إلى حديث عن الصعوبة في يوم احتفالي يفترض فيه أن يقرب الشعر إلى الأذهان والأفئدة، سأعمد إلى القصيدة. هي قصيدة في غاية الأهمية لأنها تمثل ما يمكن اعتباره بياناً لطبيعة الحداثة الشعرية، الحداثة التي يرسمها الشاعر عبر مجاز طويل ومركب هو القصيدة في هيئة ممثل مسرحي. في البدء تبدو القصيدة في مواجهة التراث ويحسم الشاعر دلالة الحداثة منذ تلك اللحظة البدئية بالتفريق بين قصيدة تقليدية كانت أشبه بممثل لا يعدو أن يقرأ ما في النص فيردده في إشارة إلى هيمنة التقاليد الشعرية السائدة على الشعر ما قبل الحديث، وقصيدة حديثة مضطرة لابتداع نصها في غياب أنموذج سابق أو نص معد مسبقاً يمكنها تكراره. وتغير النص متصل بتغير المسرح نفسه أو العالم الذي تواجهه القصيدة الحديثة. لكي يؤكد الشاعر القطيعة بين الحداثة وما قبلها يستخدم تقنية الوقوف أو الانقطاع الإيقاعي في السطر الشعري نفسه، الوقفة المعروفة في الموسيقى والشعر بسيجورا Caesura وذلك في السطر الرابع بعد كلمة "النص". ويتلو ذلك في المقطع الثاني، الذي يؤذن بوصف المرحلة الجديدة، تأكيد لتحول الماضي إلى تذكار وحاجة القصيدة الجديدة إلى التعرف على عالم جديد وموضوعات جديدة (كالحرب، وقد نشرت القصيدة أثناء الحرب العالمية الثانية). لكن المسألة الأهم والتي يكررها الشاعر في غير موضع هي "العثور على ما يكفي"، والكفاية هنا مفهوم دنيوي - علماني إذ يحيل على الاكتفاء بهذا العالم، كما يبين الشاعر في نهاية المقطع الثاني هذا. ما يكفي هو هذه الحياة التي ليس أمام القصيدة الحديثة، كما يرى الشاعر، سوى الاكتفاء بها. لكن ستيفنز يزاوج في تعبيره عن هذا المعنى بين مباشرة قليلة وكثير من المجاز. ذلك المجاز يتكثف في صورة القصيدة بوصفها ممثلاً على خشبة مسرح أمام جمهور خفي. القصيدة/الممثل تقول نصاً هو النص الذي تريد قوله (تقتنع به)، وهو أيضاً الذي يتماهى معه جمهور خفي يجد فيه ما يعبر عنه: ومثل ممثل لا يكتفي، تقول ببطء وبتأمل، كلمات تكرر، في أذن الذهن، في أكثر أذني الذهن رهافة، وبدقة، ذلك الذي تود سماعه، والذي عند سماع صوته ينصت جمهور خفي لا إلى المسرحية، وإنما لنفسه.. ويلاحظ هنا أن مفارقة تنشأ بين قصيدة تبحث عما يكفي وممثل (هو القصيدة) لا يكتفي. فثمة توتر يتصل بطبيعة الفن في سعيه للاكتفاء من ناحية وسعيه الدائب لتجاوز ما يكفي من ناحية أخرى. ويغوص والاس ستيفنز في استكناه طبيعة المعضلة التي تواجه الشاعر الحديث، أو القصيدة الحديثة، حين يصف ذلك الشاعر (القصيدة - الممثل) بالميتافيزيقي الذي يعزف في الظلام ليقع في عزفه على لحظات صحة أو صدق غير مرسومة سلفاً، كما كان الحال في الشعر ما قبل الحديث حين كانت الثقافة المستقرة تمد الشاعر بكل صحيح ومقنع له ولجمهوره. الصحة تأتي مفاجئة، ويمكننا أن نستبدل الصحة هنا بلحظة التوهج الرؤيوي أو الإبداعي التي تبرق في القصيدة فجأة عبر صورة رائعة. الميتافيزيقا تشير إلى اتصال الشعر بعوالم غامضة، فهي الماوراء، لكن الشاعر حريص على التأكيد في ختام قصيدته إلى أن ذلك الغموض ليس دينياً أو غيبياً بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي حالة من التجاوز أو التعالي يدركها الشاعر ويعبر عنها ولكنه حريص على عدم الصعود إليها على النحو الذي قد يغرقه فيها. وفي النهاية نصل إلى وقفة أخرى تسبق الأسطر الثلاثة الأخيرة وتمهد لتأكيد دنيوية النص بالإشارة إلى الموضوعات اليومية للقصيدة الحديثة (رجل يتزلج، امرأة تمشط شعرها) وكأن الشاعر خشي من سوء فهم لما يقصده بالميتافيزيقا، أو أن ينظر إلى ذلك البعد الغيبي أنه هم رئيس للقصيدة الحديثة. (بقيت ملاحظ حول الترجمة تتصل بمفردة "الذهن" التي استعملت لنقل مفردة كان يمكن ترجمتها إلى "عقل" (Mind)، لكن الإيحاءات الفلسفية المنطقية لكلمة "عقل" ليست مقصودة هنا، والأقرب مفردة "ذهن" كما بدت لي.