لم يكن في النية أن أعود إلى مقال الأسبوع الماضي (من حديث المناهج: المرأة والحجاب)، لولا ما تبين لي - من خلال ردود الأفعال عليه - من جهل خطير مدمر، هو نتيجة التجهيل المنظم المقصود من جهة، ونتيجة طبيعية للخضوع لآلية قرآنية رغبوية، يورثها الدخول في الخطاب التقليدي، والاستسلام ل (وجدانياته) الصارخة من جهة أخرى. لقد تبين من خلال تلك الردود، ذات الطابع العامي، أن التعليم لم يقم بدوره المنوط به حق القيام، من حيث التدريب العملي على التفكير العلمي المنظم الذي يميز طرائق الاستدلال.. وهذا يعني، أن ما رأيناه في المناهج من خلال موضوع الحجاب، من تخبط منهجي في الاستدلال، ومن اقصائية ذات نفس عشائري، ومن طريقة غوغائية في الشحن العاطفي المؤدلج، قد ترك أثره على وعي الجيل الصاعد، الذي نعلق عليه أعظم الآمال. التفكير بواسطة الشعور الذاتي الخاص، والتدليل الأعشى بالاتكاء على الأمنيات والرغبات، والتركيز على مفردة واحدة، بعد عزلها عن مجمل الخطاب، كلها كانت سمات عامة، للموقف العام (العامي) من الموضوع المطروح.. وهذا التركيز على هذه السمات، لا يعني خفوت ملامح أخرى، قد تكون أشد ظهوراً من تلك السمات، كالاتجاه الذكوري الفحولي المستبد - مثلاً -، وغيره، لكن، ليس كالأول في فضحه لمسارات الجهل والتجهيل. هذا الجهل الذي سنراه في النقاط التالية، وتلك الأمثلة التي سنذكرها بعد ذلك ونعلق عليها، لم تأت من فراغ، ولم تكن نتيجة جهل فطري، يتعذر على صاحبه التعليق والاستنكار.. فالخطاب التقليدي قاد مسيرة التجهيل المنظم، واستطاع أن يمتد بآثاره المأساوية إلى كل ميدان استطاع أن يصول فيه ويجول.. وبقدر المساحة المتاحة له، وبقدر النفوذ المسموح له به، كان هذا الجهل المستطير. إن أهم النقاط التي يمكن من خلالها رؤية مستوى الجهل الذي وقع الجيل الحالي ضحيته ما يلي: 1 - جهل باستراتيجية المقال.. ولتوضيح ذلك - ولأن الخطاب موجه بالدرجة الأولى إلى صانعي تلك الردود وصانعيهم من أصحاب الفكر العامي - نؤكد أن المقال لم يكن يتغيا الانتصار لإحدى الرؤيتين، لأن محاولة الانتصار لأي منهما أشبه ما تكون بالعبث الفقهي.. فالمسألة ليست تهمني في طرفيها المختلفين، بقدر ما تهمني (الطريقة المنهجية) التي تم بها تناول المسألة الفقهية. إذن، من يجهل أو يتجاهل هذا الهدف الاستراتيجي الواضح للمقال - ولغيره من المقالات - فهو أسير لتيار ايديولوجي ذي طابع احتوائي.. وكونه لا يشعر بهذا الاحتواء لا يعني أنه بريء منه، بل يعني أن خطره عليه أشد وأشمل.. فسواء كان جاهلاً أو متجاهلاً فهو ضحية لخطاب الجهل، وممارسي خطاب التجهيل. ومع أنني كنت واضحاً في الإلحاح - إلى درجة الإملال - على أن القضية (المرأة والحجاب) ليست إلا نموذجاً ومثالاً تطبيقياً للخلل المنهجي العام، وكان التركيز على المنهجية في المقدمة قبل الدخول في الموضوع واضحاً، إلا أن القارئ - الذي عاش طويلاً ضحية خطاب التجهيل - لم ير إلا أنني أدعو إلى أقوال المجيزين لكشف الوجه، بل ان بعضهم رفع درجة النفير العام، فادعى أنني أرفض الحجاب!، مع أنني كتبت جملة صريحة في الدعوة إلى الالتزام بالحجاب. لكن، وكأي مستلب، لا يقرأ المؤدلج إلا ما تتيح له الوسائط الايديولوجية قراءته/ فهمه، فضلا عن كونه ضحية القراءة التراثية التي لم تتعود قراءة النص كبنية، وإنما تعودت قراءة الجمل المتتالية فحسب.. لذلك يقول احدهم في التعليق على المقال: «كلما قرأت لك أجدك مهتماً بإنكار التشريع الرباني».. ويقول آخر: «وانحاز الكاتب لرأيه الخاص بشدة مع أنه يهاجم بشدة من أسماهم بالإقصائيين».. ويقول آخر: «أريد أن أقول للكاتب بدل أن تشغل نفسك بتشجيع كشف الوجه لماذا لا تتحدث وتنتقد كشف السيقان والصدور». واضح من هذه الجمل طبيعة القراءة/ الفهم، وأن هؤلاء المعلقين إن هم إلا ضحايا جهل وأدلجة طويلة الأمد، وإلا فأين انكار التشريع الرباني؟.. المقال كان شرعياً، يناقش الحجاب، بواصفه مشروعاً في الدين الإسلامي، وأن أهميته للمرأة المسلمة تستدعي فهماً واسعاً لحدوده، ومعرفة بأحكام هذه الحدود.. فالمقال - إذا نظرنا إليه من زاوية الأحكام الواردة فيه عرضاً - مقال دعوي، يحتكم إلى التشريع الرباني أشد ما يكون الاحتكام، وهو بالسلفية المستنيرة يتوسل، وعنها ينطق!.. بينما الاتهام بإنكار التشريع الرباني - من قبل المعلق - اتهام صريح بالكفر، فمن أين أتى هذا الفهم، وكيف صدر هذا الحكم؟!، ومن هم المشرعون لمثل هذا التجاوز الاستدلالي؟.. في ذلك المقال، لم يكن لي رأي خاص، أو على الأقل لم أكشف عن رأيي الخاص، فكيف تخيل القارئ أنني منحاز - وبشدة - إلى أحد الطرفين المختلفين في حكم كشف المرأة لوجهها.. ومن هو الإقصائي؟، هل هو الذي يقول: في وجه المرأة قولان للعلماء، كلاهما معتبر، وأن من أخذ بأي القولين فلا تثريب عليه، أم الذي يقول في منهج دراسي لعشرات الملايين من الطلاب: إن الرأي الصواب، هو وجوب تغطية الوجه واليدين، ومن قال بغير ذلك فكلامه باطل.. أين الإقصاء؟، هل هو لدي وأنا أقول بمشروعية القولين اتكاء على آراء الفقهاء، أم لدى وزارة التربية والتعليم؟!، وهي التي تقول بالقول الواحد، ومن ورائها المعلق الكريم. وانظر المقارنة بين كشف الوجه وكشف السيقان والصدور في التعليق الثالث السابق.. إنه إصرار - غير مبرر - على أنني أقوم بتشجيع كشف الوجه، وأتغاضى عن كشف الأعضاء المجمع على وجوب سترها.. إن المقال لم يكن في تحديد حجاب المرأة، فأذكر الأحكام في بقية الأعضاء، بل كان في خلل منهجي فاضح، إذ ينصر المنهج المدرسي قولاً على قول، دون مبرر عملي لهذا التحيز المتزمت، فضلاً عن تهافت الاستدلال معرفياً. كل هذا إذا أحسنا الظن بصاحب هذا التعليق.. أما إذا لم نفعل، فإن الهدف قد يكون متوجهاً لإدخال القارئ في رحلة طويلة من الهياج العاطفي.. أي عرض صاحب المقال وكأنه يدعو إلى السفور، وفي الوقت نفسه يتغاضى عن مظاهر التبرج الأخرى.. فهو - بهذه الحال التي يراد إيصالها للمتلقي - داعية انحلال.. وإذا كان كذلك فلنا يقبل منه مقاله النقدي الذي يناقش فيه قضية هي أبعد من هذا المثال، وهذا - ربما - كان المراد الحقيقي من التعليق السابق.. وهو أسلوب معروف، يمارسه الخطاب التقليدي في أحيان كثيرة، ليسوق الناس إلى مقولاته الخاصة بمثل هذا الدجل والاحتيال العاطفي. ومثل هذا الشحن العاطفي، ما نراه عند بعضهم - بعد طرح رؤيته أو بعدها - من الدعاء بأدعية لها طابع خاص، ولها دور ملموس في صنع موقف من المردود عليه.. يقول أحد المعلقين: «وفق الله نساء المؤمنين للستر والحياء، وجنبهن ادعياء السفور والرذيلة».. ومن الواضح ان الدعاء لمجرد الدعاء ليس المراد في هذه الجملة، بل المراد وصف المردود عليه بهذه الصفات المنفرة، على هيئة دعاء جميل ومقبول في عمومه، لينخدع المتلقي بهذا الظرف الدعائي، ولا يتفحص مقولات صاحبه تفحصاً نقدياً.. وقليل من الناس من يتنبه لمثل هذا المكر النفاقي، المتخفي في صورة الورع والتقوى. 2 - الجهل بالموضوع ولاخلاف فيه، أو تجاهل ذلك.. فبعض الشرائح الاجتماعية التي تمت صياغتها على رؤية أحادية، لا تعرف أن المسألة (المرأة والحجاب) التي أدرجت في المقال كمثال فحسب، هي موضوع خلاف طويل وقديم.. إن علماء هذه الفئة الاجتماعية التقليدية - وقد رأيت بنفسي عينات منها - قالوا لمريديهم قولاً واحداً، ولم يطلعوهم على الرؤية المخالفة لهم، فضلاً عن أن يعرضوا عليهم الأدلة على ما هي عليه عند أصحابها المخالفين. إن هؤلاء يظنون أنهم أصحاب الحقيقة، وأن حقيقتهم واضحة تمام الوضوح، وأن من سواهم ضالون على علم، ولا يتبادر إلى أذهانهم بحال، أن رؤيتهم هذه ليست إلا نتيجة جهل وتجهيل من علمائهم مارسوه عليهم.. إنهم يتهمون الجميع، ولكنهم لا يتهمون أنفسهم ولا علماءهم، فيتراكم الجهل ظلمات بعضها فوق بعض.. ولذلك تراهم - دائماً - يجادلون بجهل وعن جهل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ويقول أحد المعلقين: «لن يكون هناك خلاف إذا ما رجعنا إلى الكتاب والسنة، وأخذنا بهما على فهم السلف الصالح.. هكذا المسألة بكل وضوح وسهولة».. ومع انه لا وضوح ولا سهولة في هذا الجهل، إلا أن هناك من هو ضحية هذه المناهج الدراسية التي توحي لهذا وأمثاله أن المسألة على هذا النحو.. بكل هذه السذاجة، مطالبة بالرجوع للكتاب والسنة، وكأن العلماء المجيزين لكشف الوجه واليدين حسبوها مسألة اجتماعية، فرجعوا إلى مؤلفات ماركس ودوركهايم. إن دعوة المخالف في الفقهيات إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، هي اتهام لهذا الآخر المخالف بأنه لم يرجع إلى الكتاب والسنة، وفي الوقت نفسه تزكية - مريبة - للأنا.. الاختلاف موجود، وهو موجود بعد الرجوع للكتاب والسنة وتحكيمهما، والسلف اختلفوا، فما العمل؟.. في الواقع، لا يمكن حل اشكال كهذا، لأنه خلاف في قراءة النصوص، وليس في استقصائها، فيكون توفر النص قاطعاً للاشكال.. والنتيجة ان الخلاف سيبقى، ما بقي النوع البشري المتنوع. ومن الغريب أن بعضهم تزعجه هذه الإشارات العلمية إلى الخلاف، ولا أدري لماذا؟!.. يقول أحدهم في تعليقه: «الكاتب لا يعرف من الدين إلا الخلاف.. وفي القرآن خمس آيات تدل على وجوب تغطية الوجه» ثم يقول: «أرجو من الكاتب أن لا يضل الناس بتأويلات باطلة وأن يأخذ بقول علماء الأمة، وأن لا يفسد نساء المسلمين». هذا مثال للضيق الشديد بالخلاف من ناحية، وجهل بأهمية الخلاف في الميادين العملية من جهة أخرى.. كما أنه جهل بحقيقة العلم ومساراته، فالمسائل الواضحة التي لا خلاف عليها يعرفها الجميع، بينما المعرفة الخاصة تكمن في التفاصيل الاجتهادية، والتي هي محل الخلاف.. لكن مثل هذا المعلق، صنع على أن هذه المسألة الخلافية لا خلاف فيها، وأن الواجب (تغطية الوجه) مع أن أكثر العلماء المحققين لا يرون ذلك. ولاشك أن التربية التي تتعمد التدليس واضحة في هذا المثال، فهو يذكر أن في القرآن خمس آيات تدل على وجوب تغطية الوجه!.. بينما لا توجد آية واحدة صريحة في هذا الوجوب المدعى.. الآيات بعضها خاص بأمهات المؤمنين، وبعضها الآخر محل اجتهاد واسع للمفسرين، وبعضها الآخر مخصص بنصوص السنة.. إلخ. إن هذا وأمثاله، تم الاستشهاد لهم بالآيات القرآنية، ولم يذكر لهم إلا تفسير واحد، هو مراد مفتيهم الخاص، فتصورا - جراء هذا التحجر في الفتوى - أن من لا يرى وجوب ستر الوجه، إنما يرد الآيات القرآنية ويتنكر لها، وأن المرأة التي تكشف عن وجهها ويديها لا تنفذ الأمر القرآني. إن معنى كلام هذا المعلق، ان علماء الأمة، ورؤساء المذاهب الفقهية، والأئمة المحققين - وآخرهم الإمام الألباني - قد تركوا هذه الآيات التي تدل على الوجوب وقالوا بالجواز.. وهذه تهمة عظيمة، موجهة لأكثر علماء الأمة منذ القدم وإلى العصر الحديث.. بل هو اتهام لهم أنهم - عندما قالوا بالجواز - كانوا يضلون الأمة بتأويلات باطلة، كما زعم صاحب التعليق في حقي.. ولا أدري كيف يطالبني بأن آخذ بقول علماء الأمة، وأكثر علماء الأمة يقولون بالجواز؟، فهل يريدني أن أقول بالجواز كما يقول علماء الأمة به.. هذا ما أفهمه من قوله، إلا إذا كان يقصد بعلماء الأمة علماء بلده.. وفي هذه الحال لا ينطبق عليهم وصف علماء الأمة، بل (علماء) محليون فحسب. 3 - جهل بمفردات المقال، فضلاً عن السياق العلمي له.. وهذا يدل على أن القارئ الذي كشف عن طبيعة منطقه الاستدلالي لم يُنشأ تنشئة علمية، تساعده على تتبع العلاقة بين المثال والاستدلال. فأحدهم يقول: «من ينكر الحجاب فهو يحقر المرأة». وأنا أسأل: من الذي أنكر الحجاب، أي في المقال؟، وما علاقة الحجاب بالتكريم من عدمه؟. لا جملة الشرط ولا جوابها لهما علاقة بالمقال، فضلاً عن العلاقة المزعومة بينهما. أما الذي حاول في تعليقه أن يقيم مقارنة بين المرأة (الجوهرة) والمرأة (الطماطم) فهو - فضلاً عن كون المقال ليس مزايدة على مكانة المرأة - يقدم مثالاً من أمثلة الجهلاء الذين يرون المرأة - على أحسن حال - مجرد جوهرة ثمينة في ملك الرجل، مهمته أن يحافظ عليها!، لأنها شيء!. إن هذا المثال السخيف - جداً - يدل على الكيفية التي يربي عليها التقليديون مريديهم السذج؛ لينظروا إلى الإنسان من خلالها. لم يدرك هؤلاء من خلال مفردات المقال ومن خلال سياقه العلمي أن هذا المثال (المرأة والحجاب) ليس إلا مثالاً للمسائل الخلافية، التي تتكرر كثيراً، وأن هناك أمثلة أخرى كثيرة، لا بد أن نعاملها على هذا النحو من القبول بالتنوع. إن هذه المسألة الخلافية - وأمثالها كثير - لا يمكن الجمع بين أدلتها الكثيرة إلا بالرضا بالأحكام المختلفة الصادرة عنها؛ الاقتصار على حكم واحد، يعني مصادرة بقية الأدلة وعدم احترامها وتقديرها حق قدرها، بينما القبول بها جميعاً يعني احترام الجميع. إن ما ذكرته من أمثلة على الفهم الغوغائي، يدل على مستوى التجهيل الذي مارسه خطاب التقليد على مريديه، وكيف أصبح ضحاياه بالألوف. كما يدل على أن مثل هذا الوعي المضطرب يمكن أن يكون ضحية لأي خطاب غوغائي دعائي، يضرب على أوتار العواطف، خاصة العواطف التي تجنح للتشدد عندنا؛ نحن أبناء الصحراء. وفي هذه الحال، يمكن لأي حافظ نصوصي - حتى وإن كان غائب الوعي - أن يجيش الكثير من هذه النماذج؛ بإرهابها بنصوص منتقاة، بعد وضعها في عناوين كبرى ذات طابع شعاراتي. هذا مادل عليه الاستقطاب في هذا المثال. لقد كنت في أكثر الأحيان أتجنب النماذج والأمثلة عن عمد؛ مخافة أن يتم اختصار التنظير في النموذج المذكور، ومن ثم الحجر على الفاعلية الإيجابية للمتلقي في صناعة النص الملائم. وقد أثبت المقال السابق صدق هذا التخوف، خاصة إذا كان المثال شديد الحساسية كأي مثال يتعلق بالمرأة.. لقد غاب المنطق الكلي للمقال، وحضر المثال، ولم يبق في الأذهان سوى الجدلية النصوصية التي لا تغني شيئاً. ٭ تنبيه هام للقارئ: في بعض منتديات الانترنت، يوجد من يضع مقالاتي دون نسبتها إلى مصدرها (جريدة الرياض) ويقيم حولها حواراً فكرياً، منتحلاً شخصيتي، ومحاوراً باسمي الصريح.. وأنا لم أكتب في أي منتدى، لا باسمي الصريح ولا باسم مستعار، وبريء من أية مقولات تنسب إلي في تلك المنتديات.. وأرجو من المشرفين عليها إلغاء هذا الانتحال.